د. عبدالحق عزوزي
قال المفكر السوري الدكتور «برهان غليون» تعقيباً على مشاهد اللاجئين السوريين في أوروبا الأخيرة في منشور مطول على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك: «هل يمكن الفصل بين الحماس المفاجئ الذي تظهره دول أوروبا اليوم لاستقبال.....
..... اللاجئين ومشاريع التطهير القومي والمذهبي المستمرة لفرض حل ضد الشعب السوري؟». وتابع: «هناك الكثير من الدلائل على أن الهبة الحاتمية التي أعلنتها أوروبا هذه الأسابيع لاستقبال مئات آلاف اللاجئين السوريين واحتوائهم ليست معزولة عن العملية السياسية التي صوت عليها مجلس الأمن والمتمثلة بتطبيق خطة دي ميستورا للحل السياسي ولا عن مبادرة الروس وخطتهم لإنقاذ نظام الأسد باقتراح مشاركة سياسية مع المعارضة وانتخابات تشريعية مبكرة تضمن استمراره». وأكمل: «يبدو أن شرط التقدم نحو حل سياسي في سورية يضمن العودة التدريجية إلى الوضع الطبيعي، وينهي عهد الأوضاع الاستثنائية التي دامت نصف قرن، وبالتالي السماح بممارسة الحد الأدنى من الحريات والتعبير عن إرادة الشعب، مرتبط بتفريغ سورية من بعض ملايين من أبنائها، وتعديل موازين القوى السكانية والمذهبية القائمة، وذلك في إطار إرضاء أطماع قوى وتكتلات دولية تخشى من سورية قوية مستقرة وفاعلة في محيطها».
وأضاف: «ما نعيشه هو عملية جراحية منهجية لتكسير أطراف سورية وتطويعها وحرمانها من تجاوز الدور الذي رسم لها، خلال نصف القرن الماضي، بؤرة لمافيات المال والمخدرات والسلاح وتجارة الإرهاب، وجحيما لكل صاحب مبدأ أو فكرة أو دين أو عقيدة فيها».
وختم بالقول: «ليس هناك ما يمكن أن يبرر أو يفسر السكوت على عمليات القصف العشوائية للمدن والأحياء الشعبية والأسواق والمشافي وعلى محاصرة المناطق وتجويعها غير الموافقة على مشروع التعديل في التوازنات والنسب السكانية الدينية الراهنة».
وهذا كلام فيه كثير من الدقة. ثم إن الدول التي تعرف اضطرابات سياسية وأمنية مستمرة غالبا ما تتأثر ساكنتها التي ستبحث في يوم من الأيام عن دول أخرى تستقر فيها سواء كانت من الدول العظمى أو المجاورة سياسيات جيوسكانية أو جيوسياسية كما جاء في كلام الأستاذ برهان غليون؛ فقشرة الدولة الحامية للأفراد والجماعات عندما تتهاوى يوما بعد يوم، تجعل المئات بل الآلاف من الساكنة تفكر في الهجرة والهروب من جحيم الحروب، وسوريا تعد أفضل مثال على ذلك. فالشعب السوري يبقى تحت رحمة سندان النظام الدكتاتوري السلطوي البوليسي، ومطرقة الإرهاب والاضطرابات والخوف المستمر، وضيق الأمل بل وانعدامه في المستقبل القريب والمتوسط، حيث لا مدرسة ولا مأوى للأطفال، وحيث لا عمل ولا راتب للآباء والأمهات، ولا يدري الإنسان في أي وقت ومن أي مكان ستأتيه رصاصة طائشة ومتعمدة تودي به وبعياله.. وانطلاقا من هذا الواقع المر الذي استمر منذ سنة 2011 في سوريا ولازال، والفوضى العارمة التي تعم دولا أخرى مثل ليبيا، أضحى البحر الأبيض المتوسط ممرا للاجئين والمهاحرين ومقبرة للعديد منهم. إذ تشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة أنه أزيد من 2000 شخص لقوا حتفهم غرقا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري في البحر المتوسط، منهم 1300 غريق في شهر أبريل وحده. وهذا العدد يساوي أربعة أضعاف غرقى عام 2013.
وهناك دول أكثر عرضة لاستقبال المهاجرين كإيطاليا التي غالبا ما تشكو من تنصل الشركاء الأوروبيين من مسؤولياتهم، وهو ما جعلها مع العديد من الدول الأخرى تطالب بتغيير قواعد دبلن، بحيث يتم إجراء توزيع عقلاني وإنساني للاجئين والمهاجرين على مختلف دول الاتحاد، بعد أن أعلن مكتب الإحصاء الأوروبي «يورستات» أن نحو 170 ألف مهاجر (أكثرهم سوريون) عبروا المتوسط عام 2014 وحده باتجاه السواحل الإيطالية..
وموازاة مع هاته الوقائع المرة، فإن الساسة الأوروبيين يستغلونها في مزايدات سياسية وتطاحنات إيديولوجية وفكرية عقيمة في كل وسائل الإعلام غالبا للتنصل والممانعة والمقاومة... لذا نسمع هاته الأيام جدلا لتحديد وضعية السوريين: هل هم مهاجرون أم لاجئون؟ فاللاجئون حسب تعريف مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة هم أشخاص فارون من الصراع المسلح أو الاضطهاد. وغالباً ما يكون وضعهم خطراً جداً ويعيشون في ظروف لا تُحتمل تدفعهم إلى عبور الحدود الوطنية بحثاً عن الأمان في الدول المجاورة، وبالتالي يتم الاعتراف بهم دولياً كـ»لاجئين» يحصلون على المساعدة من الدول والمفوضية ومنظمات أخرى، ويوفر القانون الدولي الحماية للاجئين، وذلك بحسب اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئ، ومن أهم المبادئ الأساسية المنصوص عليها في القانون الدولي هو وجوب عدم طرد اللاجئ أو إعادته إلى أوضاع تهدد حياته وحريته. أما المهاجرون وفق تعريف المفوضية فهم أشخاص يختارون الانتقال ليس بسبب تهديد مباشر بالاضطهاد أو الموت، بل لتحسين حياتهم بشكل أساسي، من خلال إيجاد العمل أو في بعض الحالات من أجل التعليم أو لمّ شمل العائلة أو أسباب أخرى. وعلى عكس اللاجئين الذين لا يستطيعون العودة إلى وطنهم بأمان، لا يواجه المهاجرون مثل هذه العوائق للعودة. فإذا اختاروا العودة إلى الوطن سيستمرون في الحصول على الحماية من حكومتهم.
فالفرق إذن بين الحالتين مهم جداً، إذ إن الدول ستتعامل مع المهاجرين تماشيا مع قوانينها الداخلية ولكن مع اللاجئين بموجب قواعد حمائية للاجئين في القانون الدولي... والخلط المتعمد سيؤدي ثمنه اللاجئ الذي لا حول له ولا قوة.
رئيس المفوضية الأوروبية ألقى خطابا إنسانيا وتاريخيا في قبة المفوضية الأوروبية، إذ أكد أن تسوية أزمة اللاجئين يجب أن تكون إحدى أولويات الاتحاد الأوروبي، قائلا «الأهم هو مسألة الإنسانية والكرامة الإنسانية». وقال: «يجب ألا ننسى أبدا لماذا منح اللجوء واحترام الحق الأساسي في اللجوء مهم للغاية»، مضيفا أن «الكل في أوروبا في أوقات مختلفة كان لاجئا».
وأعطى حقائق رقمية مخيفة «فحوالي 500 ألف من اللاجئين وصلوا إلى أوروبا منذ بداية العام. وهؤلاء الناس يهربون من الحرب في سوريا وتنظيم داعش في ليبيا والنظام الاستبدادي في إريتريا». كما أعطى مقترحًا بأن تستقبل 25 دولة من بين 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي 160 ألف لاجئ، ولكن هذا التقسيم يبقى عملية تتعدى مسألة الاستضافة وتوفير الوظائف والأمكنة في أرض الله الواسعة، وإنما يجب إيجاد أمكنة لهم في عقول الأوروبيين؛ ففي مقال منشور على موقع هافنغتون بوست الألماني، يقول رئيس تحرير الموقع إنه خلال الأشهر والسنوات القادمة، سيكون على الأوروبيين إعادة دمج أقليتين في نفس الفترة: اللاجئين الذين سيبقون معهم لفترة طويلة و»المواطنين القلقين»، ممثلي ثقافة الخوف، ويتابع بقلق «ستكون المهمة أصعب مع المجموعة الثانية على الأغلب»، وهاته هي الإشكالية التي على الأوروبيين مواجهتها.
ولا يجب أن نبقى نحن العرب مكتوفي الأيدي إذ يجب التنبيه إلى دكتاتورية الأسد ونظامه الدموي أكثر من أي وقت مضى، ومواجهة الأطماع الجهوية والدولية القاضية بتحويل الخرائط والوقائع في البلد، خاصة وأن البعض كما ذكر ذلك الأستاذ برهان غليون يتحدث عن تقسيم سورية بطريقة طبيعية. بمعنى أن تقسيمات الأمر الواقع الناجمة عن حرب السنوات الخمس الماضية من الحرب ليست اعتباطية خاضعة للتحول مع تغير المعطيات العسكرية، وإنما هي ترجمة لحقائق عميقة قومية أو مذهبية، وأن لسيطرة المليشيات على هذه المساحة أو تلك من سورية مشروعية: حماية أتباع أو استعادة حقوق. ومن ضمن هذا الافتراض أن «داعش» تمثل السنة مثلاً، وأن نظام الأسد يمثل العلويين، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي يمثل الأكراد، وأن الجيش الحر يمثل المناطق التي يسيطر عليها، وأن هذه السيطرة يمكن أن تكون مستقرة ودائمة لن تتغير. وهو يفترض كذلك أن السوريين «مكونات».... كما يفترض أن لهذه «المكونات» القومية والمذهبية قيادات مكرسة ومعروفة ومعترفاً بها، ولها أجندات موحدة، أو واحدة، تتحرك على أساسها، وأن من ضمن هذه الأجندات الانفراد بحكم ذاتها، والانفصال في شؤونها إلى هذا الحد أو ذاك عن شؤون الجماعات الأخرى. وكل هذا الكلام يعني مما يعنيه استنفاد كل إمكانية بناء الدولة الوطنية الموحدة فيما بعد، وتفريغ البلد من ساكنته، ولله الأمر من قبل ومن بعد.