د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
بمنهج علمي دقيق وبتمثل عميق للمنهج الوصفي وبسبر لأغوار كتاب سيبويه وبفهم مستوعب لمفرداته استطاع الدكتور نوزاد حسن أحمد أن يكشف جانبًا مشرقًا لكتاب سيبويه، وأن يقفنا على أسس المنهج الوصفي في الكتاب، وأن يقفنا على تمثله استعمال هذا المنهج في الدرس اللغوي عنده في المستويات الصوتية والصرفية والنحوية، وفصّل في قواعد العلاقات النحوية من قرائن معنوية كالإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية وقرائن لفظية كالعلامات الصوتية والمطابقة والربط والتضام والتنغيم، وبيّن قواعد الاستبدال والتحويل.
انتهى الباحث القدير إلى جملة من النتائج المهمة أقتبسها مميزة بين علامات التنصيص، وهي النتائج التي بينت أن “قيمة التراث تظهر من خلال الجد الذي بذله سيبويه في جمع مادة كتابه ودراستها... فالكتاب مرجع لمن يروم البحث في موضوعات علم اللغة”، وسيبويه قد “بدأ البحث اللغوي عنده وفق منهج وصفي دقيق”، إذ تراه “اهتم بالمسموع من اللغة”؛ لأن “منهجه الوصفي يحتم عليه دراسة اللغة من خلال الكلام”، ولذلك “ميّز بين اللغة والكلام، وإذا كان الكلام هو الجانب المستعمل من اللغة في المنهج الوصفي الحديث فإن سيبويه قد ربط في أكثر من موضع بين الكلام والاستعمال”، فقد “أدرك أهميّة اللغة المنطوقة، وحمله الاهتمام بها على ملاحظة نطق التغييرات”، ومن هنا “لم يكن جهده اللغوي بعيدًا عن التصنيف الدقيق، الذي هو أحد الأسس التي يعتمد عليها المنهج الوصفي”؛ إذ “ألزم نفسه في الاستقراء بمنهج وصفي لصيق بالواقع متصف بالعلمية”، فكانت “السمة الغالبة للقياس في كتابه، هي القياس الوصفي المعتمد على منطق اللغة ولا نجد في الكتاب أثرًا للمنطق، والمقولات الفلسفية في تطبيق هذا المبدأ اللغوي”، و”حرص على أن تكون بين منهجه، والواقع اللغوي جذور مشتركة لذلك اتّسمت أحكامه اللغوية بالموضوعية، فقد أدرك أنّ وظيفة الباحث اللغوي هي وصف الحقائق لا فرض القواعد، وهو رائد في دقة تطبيق هذا المبدأ الوصفي”، فهو “ميّز في منهجه الوصفي بين الاستعمالات اللغوية الحقيقية والتي اقترحها قصد التوضيح وهي أمثلة مصنوعة أطلق عليها مصطلح (التمثيل)”، و”تنبه إلى أن اللغة نظام قائم على مبدأ العلاقات، وأنّ بنية هذا النظام هي الأصوات التي تنتظم في تشكيل صوتي منسجم لتؤلف الأبنية، وتدخل هذه الأبنية في علاقات سياقية لبناء التركيب النحوي الذي هو غاية الارتباطات الصوتية المتتابعة”، و”قاده حسه اللغوي إلى التمييز بين علم الصوتPhonetic وعلم وظائف الأصوات Phonology”، وعالج الظواهر الصوتية “استنادًا إلى القوانين الصوتية في نحو: (قانون السرعة)، و(قانون الأقوى)، و(قانون الجهد الأقل)، و(قانون التردد النسبي)، وهذه القوانين هي التي يلجأ إليها المنهج الوصفي لدراسة التغييرات الصوتية”، و”إنّ ما توصل إليه من وصف للأبنية والتقعيد للأصول المستقراة، يعبّر عن عمق منهجه الوصفي”، وفي “دراسة التراكيب النحوية ظهر له أنّ الجملة هي بؤرة التحليل اللغوي، واستند في وصف الجملة، وتحليل بنيتهالى القواعد، التي يحرص عليها المنهج الوصفي الحديث”، “وميّز بين البنية السطحية للجملة والبنية التحتية لها، واهتدى قبل المنهج التحويلي بقرون طويلة، إلى أن الاقتصار على الجانب الشكلي لدراسته اللغة لا يكفي للإحاطة بوصف كامل للنظام اللغوي، وأنّ وظيفة القواعد التحويلية هي الربط بين البنى التحتية، والبنى السطحية للتراكيب النحوية”، وربط بين التركيب النحوي والعالم الخارجي بملاحظة “تأثير المواقف في دلالات التراكيب، وهو ما يعرف في علم اللغة الوصفي بـ(المنهج السياقي)”.
ومن أهم نتائج البحث في هذا الكتاب القيم بيانه أنه “لم ينضج الدرس الوصفي الحديث إلّا بعد قطعه مراحل كثيرة، في حين أن هذه المراحل قد وجدت طريقها مرة واحدة إلى كتاب سيبويه”.
وختم نتائجه بقوله “وبعد، فإنّ سيبويه قد أرسى باكورة المنهج الوصفي من خلال وضعه لنظرية لغوية متكاملة، وتوضح أصول اللغة وتعبّر عن تجربة إبداعية فريدة، وتثبت عراقة البحث اللغوي العربي المتمسك للمكونات الفكرية العربية، والمستمد مقوماته من إرث اجتماعي وحضاري متميزين. فالتراث اللغوي العربي مؤهّل للتأمل والدراسة كلما انتهت الدراسات اللغوية الحديثة إلى منطلقات جديدة، وأنّ العودة إلى التراث اللغوي بعين التأمل، والنظرة الموضوعية ومن خلال فهم عميق له، كفيلة بأنْ تمنحنا الحقائق، التي ما تزال مجهولة لدى بعض الباحثين”.
وما هذا الكتاب سوى ردّ علميّ لتهمة بعض الدارسين المحدثين بأن النحو العربي نحو معياريّ حين توقفوا عند كتب تعليمية تطبيقيةٍ المعياريةُ من لوازم تأليفها، ولم يلتفتوا لأصول التدوين النحوي المتقدم التي اعتمدت على الوصف، منذ كان الوصف منهجًا لازبًا لبحث كل موضوع علمي ليؤول بعدئذ إلى المعيارية المسعفة عند التطبيق والتعلم والاختبار.
كتاب (المنهج الوصفي في كتاب سيبويه) إضافة قيمة للمكتبة العربية ودليل على أن كتاب سيبويه بحر لا تنتهي عجائبه، و(الكتاب) وهذا الكتاب جديران بالقراءة المتأنية.