د. حمزة السالم
الفرق بين العبادات والمعاملات تعرفه النفس بالفطرة، ولكن قد يختلط الأمر على متورع أو مناظر في سجالات فكرية. كما قد يختلط الأمر، عندما يكون الحكم الإلهي فيه جانب تعبدي وفيه جانب معاملاتي، كالزكاة والجهاد مثلاً.
والتفريق بين العبادات والمعاملات مهم في الفقه بأحكام الله، فأحكام العبادات كلها غايات لذاتها. بينما أحكام المعاملات فيها ما هو حكم وسيلة أو متعلق بذريعة، كالنهي عن الخلوة، وفيها ما هو حكم غاية كالنهي عن الخمر وأكل الخنزير.
وكذلك فإن أحكام العبادات لا علة لها فلا قياس علة يصح فيها مطلقاً. إنما يصح في العبادات قياس الشبه في الأداء لا في أصل الحكم. لإرشاده عليه السلام باعتباره ففي نيابة الحج, حين قال «نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء).
فالأحكام الشرعية إما أوامر وإما نواهي. والأمر غالباً يكون بفعل عبادة، ووضد الأمر هو النهي فإن جاء به الحكم فغالباً ما يكون عن الامتناع عن معاملة.
والأحكام الشرعية إما محددة بزمن أو مطلقة. والعبادات غالباً تأتي محددة بزمن مخصوص، بينما المعاملات غالباً ما تكون نهي مطلق الزمان.
والأحكام الشرعية إما أن تكون لها متعلق بغير المكلف وإما أنها لا تتعدى المسلم. فأحكام العبادات غالباً تتعلق بذات الإنسان نفسه، ليس لها متعلق آخر. بينما أحكام المعاملات غالباً ما يكون لها متعلق بآخر.
وإقامة التوحيد هو ظاهر الحكمة في هذا الفرق. فالإنسان لا يحتاج لوجود شيء في تعبده لربه إلا انصراف قلبه ومهجته وفؤاده مخلصاً لخالقه. فالعبادة بين المخلوق وخالقه، وهي كذلك في الأداء. (وفي هذا مجال واسع، لنظر المؤمن في سر عظمة التوحيد وأهميته).
وهذه الشواهد تظهر للمسلم عند تأمله في سبر الأحكام والتأمل فيها. فمتى جمعنا المطرد اتفاقاً أواختلافاً، نستطيع أن نضع قواعد تدل على الحكم إن كان من باب العبادات أو من باب المعاملات. وقد اختزلتها بعد السبر والتأمل في قاعدتين بأربع أوجه هي:
القاعدة الأولى: أمور ثلاثة، إذا اجتمعت في حكم، تأكد دخول الحكم في باب العبادات. وإذا انتفت باجتماع الأمور الثلاثة ضدها، تأكد دخول الحكم في باب المعاملات.
والأمور الثلاثة التي إذا اجتمعت يؤكد اجتماعها أن الحكم عبادة خالصة هي:
- كون الحكم جاء بصيغة الأمر?. ومحدد بزمن مخصوص?. وقوع الحكم على ذات المسلم وعدم تعلقه بآخر. أما إذا اجتمع انتفاء هذه الأمور الثلاثة بضدها، أي أنه جاء الحكم بصيغة نهي ومطلق غير محدد بزمن وكان له متعلق بآخرين تأكد أن الحكم من باب المعاملات.
- فمن أمثلة تطبيق القاعدة الأولى في الوجه الأول: الصلاة والصيام والحج، جاء بها الأمر، وفي زمن مخصوص، وتؤدى بذات الإنسان، وتقع عليه لا على غيره. (والنيابة في الحج، لا تفسد القاعدة، لأن النيابة في الأداء لا في أصل الحكم).
- وأما الوجه الثاني فمثاله كالنهي عن الربا وعن قتل النفس وعن الزنا وشهادة الزور والميسر وشرب الخمر والسرقة. فهي منهيات وليست محدودة بزمن، ولها متعلق بالغير. وشرب الخمر متعلق بالغير، بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
ويؤكد معنى المعاملة في الخمر هو مجيئ الحكم بالأمر في الصيام لا في النهي عن الأكل والشرب. فالصيام عبادة فجاء بصيغة الأمر. والامتناع عن الخمر من باب المعاملات، والله أعلم، لذا جاء الحكم بصيغة النهي. وكذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، أشياء منهي عنها، وهي خارجة عن ذات الإنسان وتقع على غيره، وليست محدودة بزمن، بل هي حرام أبداً.
القاعدة الثانية: إن اجتمع أمران فقط في الحكم الشرعي من الأمور الثلاثة السابقة، كان الحكم عبادة فيه جانب في باب المعاملات. وإن تحقق في الحكم أمر واحد فقط من الأمور الثلاثة فالحكم من باب المعاملات فيه جانب تعبدي.
ومن أمثلة تطبيق القاعدة الثانية في وجهها الأول: التوحيد عبادة فيها جانب معاملات. فقد جاء به الأمر ويقع على ذات الإنسان ولكنه غير محدد بزمن. والزمن وإن كان شاهداً ظنياً مجرداً، إلا أنه بهذه القاعدة نستطيع أن نعرف أن في التوحيد جانب تعاملي. وهذا صحيح، فالتوحيد يدخل في أفعال العبد كلها. وغلب عليه التعبد كونه متعلق بالإيمان بالغيب.
والجهاد من باب المعاملات وفيه جانب تعبدي. والقاعدة أعانتنا على هذا الاستدلال. فالجهاد ليس محدوداً بزمن وله متعلق بغير ذات المسلم إلا أنه جاء بصيغة الأمر. قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}.
وهنا تنبيه: ويجب أن يفرق بين الحكم الشرعي لذاته كالأمر بالصيام والصلاة والنهي عن الربا وشرب الخمر، وبين الحكم الشرعي المتعلق بحكم شرعي آخر، كالوضوء والطهارة من الجنب والحيض، والنصاب والحول. فالقاعدتان تتناول الحكم الشرعي لذاته لا المتعلق بحكم شرعي آخر. وهذه أيام العشر، أيام ذكر وعبادة، والتفقه في الدين من أشرف الذكر والعبادات.