د.عبد الرحمن الحبيب
بعد الهزيمة الانتخابية لحزب العمال البريطاني أمام حزب المحافظين، استعد العمال لانتخاب قيادة جديدة.. دخل المرشحون الكبار في نقاشات حزبية.. ومن أجل تجميل ديكور المناقشة وإثارة حماس الناخبين دعوا للمشاركة عضواً برلمانياً كثير الاحتجاج عليهم ظناً منهم أنه راديكالي لن يحظى بشعبية.
إنه جيرمي كوربين.. قدم قبل نحو أربعة أشهر أوراق ترشيحه قبيل ساعات قليلة من نهاية موعد تقديم المرشحين لقيادة حزب العمال البريطاني، بعد أن حصل بالكاد على العدد المطلوب حين منحه 15 نائباً دعمهم.. وبعد أن كان يُنظر إليه كيساري مخضرم لا أمل له غير المقاعد الخلفية في البرلمان.. حقق الأسبوع الماضي فوزاً كاسحاً على جميع أصحاب المقاعد الأمامية في البرلمان.. «مسح منافسيه مسحاً» على حد تعبير نورمان سميث محرر الشئون السياسية في بي بي سي..
يقول المثل الإنجليزي: «المفاجآت دائماً تقع».. فليس فقط ناشطو الحزب وقياداته لم يتوقعوا فوزه، بل هو نفسه وأعضاء حملته الانتخابية المتواضعة في البداية خاضوا التجربة لمجرد المحاولة. فكيف فاز كوربين بزعامة حزبه وهو ظل ثلاثة وثلاثين عاماً في المقاعد الخلفية في البرلمان، قام خلالها بنحو خمسمائة معارضة ضد حزبه، وكثيراً ما ندد بقيادة حزبه خاصة بعد التوجه اليميني لتوني بلير؟.
كانت الرسالة الانتخابية لكوربين بسيطة ويسارية بامتياز مركزة على معالجة الفوارق الاجتماعية الكبيرة من خلال: فرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، إعادة تأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد كسكك الحديد، زيادة الاستثمارات الحكومية، رفض التقشف الحكومي لأنه على حساب مستوى معيشة الناس العاديين، إصلاح نظام الصحة، إلغاء التسليح النووي، إلغاء الرسوم الجامعية.
بعدئذ تنامت فرص كوربين حين دعمه أكبر اتحادي عمال.. مع عودة أعضاء سابقين أعجبهم برنامجه.. كما انجذب له الشباب حتى من خارج الحزب.. ورغم أن قيادات الحزب من البرلمانيين أغلبهم وقفوا ضده فإن غالبية قاعدة الحزب ساندته.. يقول الكاتب الصحفي ديفيد هيرست إن كوربين نجح في الحصول «على دعم وتأييد جيل جديد وفتي من المقترعين الذين سئموا السياسيين الذين يتصرفون كما لو كانوا آلات لا شعور لها».
أما سياسة كوربين الخارجية وهي ما تعنينا، فقد كانت: ضد التدخل في الشرق الأوسط خارج إطار القانون الدولي.. لذا قدم اعتذاره للشعب العراقي لمشاركة بلاده في الغزو الأمريكي عام 2003م والدمار الذي تلاه؛ وكان معارضاً للسياسات الأمريكية، مطالباً بفصل سياسة بلاده عنها.. وهو ضد ضخ الأسلحة لدول الشرق الأوسط.. وفي قضية اللاجئين الأخيرة كان مرحباً بهم.. وكان دائماً يعلن دعمه للقضية الفلسطينية.
فإذا فاز حزب العمال بالانتخابات القادمة، فإن كوربين سيكون هو رئيس الوزراء القادم، فكيف سيدير السياسة الخارجية لبلاده، لا سيما منطقة الشرق الأوسط؟.. قبل هذا السؤال هناك من يرى أنه لن ينجح بالاستمرار في قيادة حزبه مع أجندته اليسارية. صحيح أن حزب العمال يمثل تاريخياً يسار الوسط في بريطانيا، لكن كوربين قد يخرجه من الوسط إلى اليسار السياسي الذي لا يحظى بشعبية هناك، مما قد يقضى على اعتدال حزبه مؤدياً إلى تراجعه في المنافسات الانتخابية.
لذا قالت الصحف اليمينية بأن انتخاب كوربين هو إعلان وفاة لحزب العمال الجديد (البليرية)، «كوربين قتله في نهاية المطاف» حسب التلغراف، فيما عنونت الإكسبريس: «وداعا حزب العمال!».. «كوربين أشعل حرباً أهلية في حزب العمال» حسب التايمز. أما صحيفة ميل فقد أكدت أن هذا المعارض المتقشف سيتم نسيانه قريباً.
الصحف ذات الميول اليسارية كان لها رأي آخر.. فصحيفة الإندبندنت وضعت عنوانها العبارة التي أطلقها كوربين لمؤيديه الشباب الجدد وللأعضاء السابقين: «أهلاً بكم في الحزب نرحب بعودتكم لمنزلكم». أما الغارديان فرأت أن فوز كوربين «زلزال أقوى من مقياس ريختر السياسي.. ضربة منظمة شارك فيها أعضاء قدامى صامدون في اليسار وانتفاضة أعضاء جدد عفويين ومثاليين». فيما خصصت صحيفة مورنينغ ستار الاشتراكية عددها لتحتفي بكوربين، بعنوان: «جيريمي انتزع النصر».
بالنسبة للنقاد فكثير منهم يرى أن كوربين لا يمكنه قيادة حزبه في انتخابات عام 2020 إلى الفوز، ولا يصلح لرئاسة الوزراء، لأنه يأتي من اليسار المتشدد في الحزب، ومن مدرسة قديمة من نواب المقاعد الخلفية في البرلمان، الذين رفضوا الإصلاحات الكبرى لحزب العمال الجديد التي دعا لها توني بلير، وكانت بطاقته للفوز في انتخابات 1997م.
ففي الوقت الذي كان فيه كوربين يلقي كلمة فوزه كان كافة الأعضاء الذين يعملون في وزارات الظل يقدمون استقالاتهم، ويساندهم أغلب قيادات الحزب. إذن، المهمة عصية على كوربين في توحيد الحزب أو إعادة بنائه، وتوسيع طاقم وزراء الظل، رغم أن كوربين أكد أهمية مشاركة الجميع وعدم استبعاد أحد في رسالة تطمين لنواب الوسط داخل الحزب.
إنما سبق للتوقعات الأولية أن فشلت وفاز كوربين رغم أن الاستطلاعات الأخيرة توقعت فوزه، فإذا فاز حزب العمال بالانتخابات القادمة وأصبح كوربين رئيساً للوزراء، فماذا ستكون سياسته الخارجية؟.. المعروف أن المهمة عسيرة إن لم تكن مستحيلة في التوفيق بين الواقعية السياسية والقيم والمبادئ التي كان ينادي بها الفرد الفائز بالانتخابات.. وحتى لو أراد كوربين تنفيذ سياسة راديكالية فلن تحظى بموافقة أعضاء حزبه فضلاً عن المعارضة.
في كافة الدول الديمقراطية يكون للأحزاب السياسية الرئيسية مواقف مشتركة من القضايا الخارجية، وهذا ما كان عليه الوضع في بريطانيا بين حزبي العمال والمحافظين. فماذا سيصنع كوربين في ذلك؟.. «من المرجح أنه سيجعل حزبه يتخذ مواقف مشابهة لتلك التي اتخذها الحزب الوطني الأسكتلندي، المساند لفلسطين والمعادي للاحتلال الإسرائيلي. كما يقول كريس دويل، مدير مجلس الحوار العربي البريطاني، الذي ذكر أن مطالبة كوربين «بفصل السياسة الخارجية البريطانية عن واشنطن، خاصة في قضايا الشرق الأوسط، يعني أن الولايات المتحدة ستشهد تقارباً مع حزب المحافظين، فيما ستتوتر العلاقة مع حزب العمال بوجود كوربين على رأسه».
من هنا نخلص إلى أن كوربين لو أصبح رئيساً للوزراء لن يتمكن من إحداث تغيير كبير في السياسة الخارجية لبلاده، لكنه يبدو عازماً على إجراء تغيير مؤثر تجاه الشرق الأوسط خاصة موقفه المساند لفلسطين والمعادي للاحتلال الإسرائيلي.