يوسف المحيميد
حينما دخل السجن في الخامسة عشرة من عمره، أوقف الطفل محمد القحص الزمن عند ذلك، وقرَّر ألا يكبر، وأن ينساه الزمان، ويختبئ عن درب الأعمار، كما كانت فيروز تغني، قرَّر أن يعيش طفولته وما بقي له بين جدران غرفة رطبة كئيبة، وأن يطلب من مدير السجن لعبة «بلاي ستيشن» التي يسمع بها من الزوار، كي يلعب ويسلّي نفسه. كم كان محمد محزناً وملهماً معاً، فحين يروي كيف أخذوه من بيته، ومن حضن أمه وأبيه، وكيف فقد كل من يعرفه من الأصدقاء والمدرسة وكتبه، فإنه يرخي فوق رؤسنا غلالة حزن سوداء، وحين انتشر مقطع الثواني القصيرة وهو في المقعد الأمامي للسيارة، يغني مع كاظم الساهر، أغنية الحرية، ويهتز طرباً وسعادة: «قولي أحبك كي تزيد وسامتي»، فإنه يلهمنا الصبر والقوة والطموح، وأيضاً التعبير عن الفرح والسعادة!
نعم، لقد كبر محمد القحص خلال عشرين عاماً، حتى وإن أوقف الزمن مجازاً، لكنه كبر وازدادت وسامته ورجولته، وأصبح أيقونة لجيله، لم يظهر من السجن منكسراً، ومخذولاً، بل خرج رافعاً رأسه، مردداً أغنية الحرية والشباب، تنتظره قبيلته التي لم تخذله، بل وقفت بجواره، وناصرته في قضيته العادلة، حينما دفع عن نفسه الأذى، واستقبلته استقبال الرجال الصابرين، وأقامت له الحفلات، مصحوبة بالقصائد والرقصات الشهيرة.
أما من أخذ عليه الغناء في لحظة نشوة وسعادة، واعتبر ذلك لا يليق، وعليه أن يحمد الله ويشكره أن أزال كربته، وأنجاه من السجن والموت، فهم ممن يعتبرون الضحك واللهو البريء ينقص الرجولة، وقد يزيد البعض أنها تخالف الدين، رغم أن الإسلام بوصفه دين الفطرة، لا يتوقع منه أن يصادر الفرح والضحك والانبساط، فلا يعقل أن نجادل من ضاعت طفولته، وزهرة شبابه، بين أربعة جدران، حول مشروعية فرحه وسعادته، ونطالبه بأن يعود إلى الحياة عابساً صارماً مقطب الحاجبين، بل ليفرح ويضحك ويسعد ويغني ويرقص، وكل ذلك لا يعارض حمد الله وشكره على نعمته، بأن أنقذه من السجن بعد سنوات طويلة ومرهقة!
ما أجمل أن تعود إلى الحرية مملوءاً بالحياة، هذا ما فعله السجين محمد القحص، حينما خرج من السجن، لم يخرج محبطاً، بشعور ضياع سنوات طفولته ومراهقته في السجن؛ بمعنى أنه لم يخرج بروح منكفئة، ورغبة في الموت والانتحار والتفجير، وإنما بروح حرّة ومنطلقة، تُشع بالحياة والأمل، لأنه ببساطة صاحب قضية عادلة، ورؤيته حتى وإن كان طفلاً، أسعفته بأن يثقف ذاته، ويقرأ كثيراً، ويواصل تعليمه في السجن... فمرحباً ألف محمد، إن الحياة تفرد لك ذراعيها، وتحتضنك.