علي الخزيم
مهما ارتقى الذوق والحس في اختيار العطر، ومهما اجتهدنا في محاولة التميّز والتفرد بالاختيار الأمثل، ومع كل قناعاتنا بأن العطر الذي نُضَمّخ به أجسادنا وثيابنا سيكون هو الأفضل بين مجموعة عطور الآخرين؛ فثمّة من سيكون له رأي مخالف ينسف رأيك ويُحِيْلك إلى معاودة قراءة منظومة حواسك الخمس ومقارنة النتائج بما لدى الآخرين حولك، ثم عَرْض خلاصة التجربة على مُجْمَل الذوق العام عَلّكَ تصل إلى ما يُرضي ويواسي شعورك بدرجة صحة ذوقك، لا تقلق من نسبة سلبية تشخيص ذوقك، فكل من حولك تنتابهم هذه المشاعر، وهذا بالتالي سر من أسرار رواج كل العطور المعروضة بالمتاجر والأسواق، ويكفي انك اجتهدت بالاختيار الأمثل عندك ولا شأن لك بتكَيّف الأذواق الأخرى.
والعِطْرُ: اسم جامعٌ للأَشياء التي يُتطَّيب بها لحُسن رائحتها، وأغرم العرب بالطيب فطرة، وتطيبوا بألوان العطر سُنّة، وقبل الإسلام كان الطيب على رأس تجارتهم، ومما يروى أن ابن مسعود رضي الله عنه إذا خَرجَ مِن بيته إلى المسجد عَرفَ جيرانُ الطريقِ أنّه مَرّ مِن طِيبِ ريحهِ، كما روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (وكان في شبابه مغرماً بالطيب وفاخر الثياب حتى اكتمل عقله وزهد بملذات الدنيا) حين زواجه بفاطمة بنت عبد الملك أُسرج في مسارجه تلك الليلة بالغالية، وهي من أجود عطور زمانه الزيتية وفيها من علامات البذخ والغنى، وهذا مصعب بن عمير فتى مكة وأعطَر أهلها الذي وُلِد بين صنوف النعمة وشبّ على حرير الدلال؛ كان حديثُ حسناوات مكة، وضياء المجالس والندوات، يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتىً أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبًّا لله ورسوله)، ثم تحول إلى اعجوبة وقدوة بالإيمان والفداء، ومن محاسن وعبقرية اللغة العربية التفريق بين الروائح ودرجاتها وانتشارها ومصادرها؛ فمن ذلكم هذه المفردات: العطر والطيب والشذا والرائحة والعرف، والعبق والضوع والفوح، والأريج والعبير، وتنقسم العطور بالنسبة للأصول المستخلصة منها إلى نباتية كالزهور وحيوانية كمسك الغزال وتخليقية كيميائية؛ وقد عرض أمامي ذات يوم أحد الفتيان مجموعة من زجاجات العطور المختلفة يطلب رأيي؛ قلت: إن كنت أفهم في الطيب فإنها مُخَلّطة بمادة لا تنتمي للعطور! قال صدقت، فهذا والد صديقي يعمل مهندساً كيميائياً ولديه مهارة بتخليق هذه العطريات، لكن اللباقة جانبتني ذات يوم وأنا ادلف لمؤسسة أكرر زيارتها لطبيعة العمل بإحدى اللجان، وقد تعرّفت على عدد من العاملين هناك وكان أحدهم يقدم عطراً لزميل آخر، فقلت ممازحاً باللهجة الدارجة ما معناه (لا تُلوّث يديك فإنه مغشوش)! ولم اكتشف الخطأ حتى علمت بعد مدة أنه يبيع ولا يُهدي.
ومن طرائف التراث ان أحد الاعيان تَبَخّر (بطيب مُخلط من اثلاث) وعنده أعرابي فَفَرَطَتْ من الرجل ريح خفيفة، فأراد أن يَعرف هل فطن بها الأعرابي أم لا؟ فقال ما أطيب هذا المُثلّث! قال نعم ولكنك ربعتها.