د. فوزية البكر
بقدر ما نبدو نحن السعوديين فخورين دائماً بأن مَنّ الله علينا بنعمة رعاية أهم وجهتين إسلاميتين، هما المسجد الحرام والمسجد النبوي، بقدر ما يلقي هذا الأمر أعباء عظيمة على كاهل الأمة قيادة وشعباً، التي بحمد من الله ولطف ومعونة مكننا منها عبر عقود لتوفير ما تحتاج إليه هذه الشعيرة العظيمة من تنظيم وتحسين ومرافق وإمكانات مادية وبشرية هائلة،
تهيئ لحجيج بيت الله أداء شعيرتهم في خشوع وتمتع وطمأنينة نفسية، لا يدركها إلا من عاشها.
وتبدو حساسية الحج وعظم مسؤوليته في طبيعة ظرفه الزماني والمكاني المحدد، الذي يقضي بجمع ملايين الناس لأداء الشعائر نفسها في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي لا يحدث في أي مكان في العالم بدرجة الكثافة والتعقيد نفسها؛ ما يضع مسؤوليات مضاعفة على التنظيم والتهيئة البشرية والمادية، لا يمكن مهما كتبنا وقلنا إدراك تفاصيلها الهائلة.
ولذا فحين تحدث حادثة مرعبة كحادثة التدافع التي قتلت في الثالث والعشرين من سبتمبر نحو 717 حاجاً يتضاعف حزننا كأمة وكمسلمين وكسعوديين، مما لا يستطيع أحد إدراكه. فعزاؤنا لمن قضوا في هذا الحادث المروع، وأمنياتنا لمن كتب الله لهم السلامة بالشفاء العاجل والعودة سالمين آمنين إلى أوطانهم وأهلهم.. لكن الأسئلة الكثيرة يجب أن تتوالى؛ حتى نتمكن من فَهم ما حدث، ودراسة مسبباته بدقة، ومراجعة طرق العمل والتواصل بين العاملين عند الكوارث، ورصد كل خطأ بشري كان سبباً رئيسياً أو جانبياً فيما حدث؛ حتى يتسنى لنا وضع حلول تمنع (بحول الله) تكراره.
والجهود الضخمة والتاريخية التي تُبذل لرعاية المسجد الحرام وتوسيعه وتطويره من قِبلنا في المملكة العربية السعودية، وبما يتناسب مع نمو أعداد المسلمين في العالم، واضحة وجلية، ولا ينكرها إلا من كان في نفسه مرض؛ لذا فالهجمة الشرسة على المملكة من قِبل مَنْ لهم أجندات سياسية مسبقة يجب أن لا تجعلنا نتردد في المضي قدماً فيما قمنا ونقوم به من بذل كل ما نستطيع لرعاية حجاج بيت الله.
ولعل أصدق مثل عما يحدث على أرض الواقع هو ما كتبه أخصائي طب الطوارئ والكوارث د. فهد الحجاج بعدما حدثت واقعة التدافع المشؤومة:
(لم يُصَلِّ بعضنا العصر إلا بعد غروب الشمس.
كيف لا وأنت ترى الموت مع كل اتجاه؟
خرجتُ أحمل ثلجاً لأضعه على حاج يحتضر، فالتفت يميناً ويساراً أبحث عمن يساعدني على حمله إلى السرير فلم أجد أحداً..
كل واحد قد انشغل بأمر عظيم..
التفت إلى أحد الزملاء ليعينني وإذا العشرات بجانبه..
ويستشعر كل واحد منا أنه هو المسؤول عنهم جميعاً.
تقيأ مريضٌ فرأيت مدير المستشفى يمسح القيء عن وجهه بدون اشمئزاز أو تذمر.
توليت منطقة تحتوي على أكثر من أربعين سريراً للعناية المركزة والإجهاد الحراري.
تُوفِّي عندي اثنان، وعاش مئة بحمد الله وفضله.
بعضنا مضى له ست وثلاثون ساعة متواصلة لم ينم.
دخلت دورة المياه، وبعد ثوانٍ يتم طرق الباب «اخرج لدينا حالات طارئة؛ لا تحتمل تأخير ثوانٍ».
حوَّلنا قاعة المحاضرات إلى قاعة تبريد، وصرنا نُدخل مرضى الإجهاد الحراري بلا رقم ولا ملف؛ فامتلأت في دقائق.
رأيت من يعمل تقرباً لله ويعرَّض نفسه للتهلكة؛ لينقذ حاجاً من حجاج بيت الله.
كيف لا ونحن نتذاكر فيما بيننا {... وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
كل هذا وأنا في أبعد مستشفى عن موقع التدافع.
اللهم يا كريم
إني أشهدك
أننا بذلنا جهدنا وغاية قدرتنا وكل ما نستطيع.. كله خدمة لضيوفك..
ولم نجد من رؤسائنا وكبار المسؤولين في القطاع الصحي إلا كل جد واجتهاد وبذل وتضحية.. أقولها صدقاً وواقعاً رأيته بأم عيني.
اللهم مَنْ توفيته من حجاج بيتك فكن خير مكرم له
ومَنْ عاش منهم فكن خير محسن إليه
اللهم.. خلقتنا ضعفاء إليك مخذولين إلا بك
أسألك أن تعفو عنا تقصيرنا في حق ضيفك، وأن تعاملنا بكرمك.
كتبه على عجالة
د. فهد الحجاج
أخصائي طب الطوارئ والكوارث).
هذا المقطع الذي تم تداوله بين الناس بعد الحادثة مباشرة يعطي دلالة قاطعة على أن الجميع قيادة وشعباً يعملون لوجه الله، ويقدمون ما يستطيعون حتى في أحلك اللحظات. فلكل الرجال والنساء الذين ألقوا بأنفسهم في الميدان محبة وتقرباً لله واستشعاراً لمسؤولياتهم المهنية المتعددة نقدم أسمى آيات شكرنا بعد أن انجلى الغيم، وجلسنا الآن نراجع أنفسنا وإدارتنا وما الذي فعلناه وما لم نفعل؛ حتى نتمكن من تقديم أقصى ما يمكن في خدمة حجاج بيت الله غير عابئين بالحاقدين والمغرضين الذين يحاولون شق الصف؛ فالناجحون دائماً يحاولون مراجعة النفس والذات حتى تتطور أعمالهم.
ومن هذا المنطلق أعتقد أن العديد من القضايا يمكن أن تثار لتقييم ما حدث.