د. فوزية البكر
مع بداية العام الدراسي لا شك أننا جميعاً - أهالي ومسئولين - معنيون بقضايا تحسين التعليم والرفع من كفاءته، وليس أدل على ذلك من هذه الحركة الدائبة من النقل والتغيير التي تعصف بالمسئولين والمدارس والأهالي، فعلى الأقل أعرف أكثر من عشر زميلات يسعين لنقل أبنائهن هنا وهناك، اعتقاداً منهن بأن المدارس الجديدة ستقدم تعليماً أفضل؟؟.
بالطبع، فالتعليم في المملكة وعلى حجم الموازنات الهائلة التي خصصت له دائماً في الميزانية أي من 20 إلى 25% من الموازنة (مقارنة مع الخدمات الصحية مثلاً) (في العام 2015 جاء توزيع الميزانية على القطاعات الرئيسة للدولة بحيث حصل التعليم على 217 مليار ريال مقابل 160 مليار ريال فقط للخدمات الصحية)!!.. (ربما يُفسر ذلك في جانب منه ضعف وتردي هذه الخدمات!).. إلا أن التعليم بالرغم من ذلك ما زال يحقق نتائج متواضعة جداً سواءً تعلّق الأمر بالامتحانات الوطنية، أو بنتائج الامتحانات العالمية رغم احتفائنا بالتحسن البطيء الذي تحدثه (موهبة) (مؤسسة الملك عبد العزيز للموهبة والإبداع) مشكورة من خلال المواقع المشرِّفة التي يتحصل عليها أبناؤنا في المنافسات العالمية أخيراً.
لماذا يعنينا تحسين نوعية التعليم؟.. لأنه ببساطة يؤدي إلى تحسين المخرجات لهذا التعليم التي هي المواطن والموظف والمسئول والعامل في الشارع وفي الإدارات الحكومية وفي القطاعات الخاصة... إلخ من القدرات البشرية السعودية التي هي في النهاية المنتج الذي نسعى إلى التعرف على قدراته ومساعدته على شحذها بأفضل السبل.
سأتحدث اليوم عن عناية المؤسسات التربوية بقضايا ذات طبيعة غير أكاديمية والتي تنعكس في النهاية على تحسن الأداء الأكاديمي للطلاب، فقضايا مثل السلامة النفسية والعقلية والسلامة من العنف أو الإيذاء أو الحاجة المادية أو التعرض للابتزاز أو التنمُّر أو التحرش الجنسي أو الفقر أو الطلاق أو وفاة أحد الوالدين... إلخ من المشكلات التي تظهر لدى بعض الطلاب باختلاف أعمارهم ومراحلهم الدراسية ذات أهمية كبيرة، تبرر تخصيص ميزانيات لها لمساعدة المدارس على معرفة كيفية التعامل مع هذه المشكلات (غير الأكاديمية ولكنها تؤثر على الأداء الأكاديمي) ومساعدة الطلاب على تعلُّم كيفية مواجهتها بمساعدة الكبار في المدرسة من خلال توفير التدريب والخبراء للهيئة التدريسية والإدارية والدعم المعنوي أو المادي أحياناً للطالب صاحب المعضلة.
قد يقول قائلٌ إن هذه مشكلات سيمر فيها بالضرورة بعض الطلاب، ومن ثم سيتساقطون من النظام عبر سوء أدائهم الأكاديمي حتى يتركوا المدرسة وينضموا إلى قائمة فقراء العالم!.
لكن أحب أن أقول لأصحاب هذه الحجة المتكررة إن فلسفات العالم المتقدم اليوم لا تتحمَّل ترك أي طالب أو تسمح له بالتساقط فقط (لأننا لا نستطيع حل مشاكل العالم!).. الالتزام الأخلاقي للعاملين في ميدان التعليم يُحتِّم العناية بكل طالب يكون تحت أمانتهم، وكل فلسفات التعليم الحديثة اليوم تعتبر أن هذا أحد الحقوق الأساسية، فرعاية الجميع مهما اختلفت ظروفهم وإمكاناتهم، أو كما عبَّر عنها التقرير الأمريكي منذ عام 2000: (نو تشايلد بهايند) وتعني: أن لا طفل يترك في الخلف.
وتؤكد الدراسات التي تمت مؤخراً في هذا الصدد على أن العاملين في المؤسسات التعليمية، وخصوصاً المعلمين عليهم أن يغوصوا عميقاً حينما تصادفهم إحدى الحالات من تدني التحصيل العلمي لطالب ما، لأن ما قد يبدو تباطؤاً أو سوء أداء أكاديمي، قد يخفي خلفه أسباباً أخرى لا علاقة لها بالضرورة بقدرة الطالب على التحصيل مثل اضطرار الطالب للعمل بسبب الحاجة أو مرض أحد الوالدين واضطراره للعناية بأخواته أو خلاف ذلك، لذا فمن المهم للمدارس أن يكون لديها القدرة على إدارة البرامج خارج حدود المدرسة والتي تُعنى بمثل هذه المشكلات.
وقد قامت دراسة في ولاية ماسيتويسش الأمريكية لدراسة أثر أحد هذه البرامج المسمى (راب زون انشيتيف) والذي قام بتوفير الدعم لست محافظات في الولاية، وتمت التجربة في ثلاثين مدرسة تابعة لهذه المحافظات، بحيث قدم لها الدعم للتركيز على معالجة هذه القضايا غير الأكاديمية، ومعرفة تأثير ذلك في الأداء الأكاديمي لطلاب هذه المدارس.. وقد وجد من الدراسة التي استمرت عاماً كاملاً أن المدارس التي قُدمت فيها هذه البرامج شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في أداء طلابها مقارنة بمدارس مشابهة لم تتحصل على هذه المنح لتطبيق هذه البرامج المساعدة، بحيث إن 66% من طلاب هذه المدارس تمكنوا من رفع أدائهم الأكاديمي، مقارنة بـ 44% فقط من المدارس التي لم يُطبق فيها البرنامج المساعد.
يجب أن يكون أحد أهدافنا لهذا العام الجديد تحويل المدارس التي تُصنَّف على أن أداء طلابها ضعيف، إلى مدارس تتمتع بمستوى تعليم يتماشى والمعايير الوطنية والدولية المعتمدة لكل مرحلة، وهذا ليس بالضرورة عن طريق التركيز على رفع مستويات الرياضيات والعلوم واللغات وغيرها من الأمور الأكاديمية المهمة جداً، ولكن أيضاً على العوائق غير الأكاديمية التي تقف في وجوه بعض طلابنا.. عام دراسي جديد حافل بالمحبة والقدرة على العطاء والتبصُّر.