د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كانت أول المعالم الجاذبة في (إسطنبول) جامع السلطان أحمد، الشهير ببنائه الجميل البديع وعمارته المميزة، ومناراته الست التي تروي عنها الكتب قصة شهيرة، مفادها أنَّ السلطان أحمد قبل توجهه للحج كان قد أمر رئيس وزرائه ببناء مئذنة (ذهبية) للمسجد،
ولصعوبة تنفيذ هذا المطلب اقتصادياً لم يكن أمام رئيس الوزراء إلا التظاهر بأنه سمعها رقم (ستة)، إذ كانت كلمة (ذهب) باللغة التركية تعني (ألتين)، بينما كانت كلمة ستة تعني (ألتي)، وقد لاقى السلطان أحمد نقداً كبيراً في فكرة المآذن الست؛ لأنَّ المسجد الحرام كان يعلوه العدد نفسه، غير أنه تجاوز ذلك بتمويل بناء مئذنة سابعة في الحرم المكي ليكون مسجده الوحيد في تركيا الذي تزينه ست مآذن.
أثارت زيارة المسجد والتجول في أنحائه مشاعر مختلطة بين الفخر والحزن، الفخر بما كان عليه المسلمون في ذلك العهد، والحزن على حالهم هذه الأيام، كانت إحدى النقوشات تشير إلى أن المسجد بني بين عامي 1609م - 1616م، ولم أجد صعوبة في معرفة تسميته بالمسجد الأزرق، حيث كان هذا اللون طاغياً على الزخارف المدهونة في كل جزءٍ من أجزائه، وأعجبتني تلك التعليمات التي تشترط للسماح بدخول المسجد أن يكون اللباس ساترا، وأن تغطي المرأة رأسها، إضافة إلى وجوب خلع الحذاء، احتراماً وتعظيماً لهذا المكان المقدَّس.
كان الخطة في ذلك اليوم تقضي بزيارة مَعلمين آخرين في غاية الأهمية، على مقربةٍ من (جامع السلطان أحمد)، أولهما متحف (آيا صوفيا) الذي يعني (مكان الحكمة المقدسة)، الذي كان في أصله (كاتدرائية) قبل أن يحول إلى مسجدٍ ثم إلى متحفٍ دينيٍّ عام 1923م، ويُعدُّ أبرز النماذج على العمارة (البيزنطية) والزخرفة (العثمانية)، غير أنَّ الزحام الشديد على شباك تذاكره، وحرارة شمس ذلك النهار، وبكاء الأطفال وعدم مقدرتنا على الانتظار معهم في تلك الظروف، كلُّ ذلك حرمنا من زيارة هذا المعلم السياحي المهم، على أمل أن يكون مقصداً رئيساً في زيارةٍ قادمة، ومثل ذلك حصل معنا حين توجهنا إلى زيارة (صهريج البازيليك) الذي بني في القرن السادس في عهد الإمبراطور البيزنطي (جستنيان الأول)، حيث عرفتُ عنه أنه الخزان الأرضي الأكبر من بين مئات الصهاريج القديمة التي تخترق (إسطنبول)، ويحوي نظام تنقية مياه القصر الكبير في القسطنطينية وغيرها.
كانت المحطة التالية حديقة (غولهانة) وتعني (بيت الزهور) التي تُعدُّ من أقدم الحدائق وأشهرها في المدينة، كانت فاتنةً وساحرةً بكلِّ تفاصيلها، كانت المكان الأمثل للحصول على وقتٍ للراحة والاستجمام، والاستمتاع بساعاتٍ من الهدوء والتأمُّل والتقاط الأنفاس، حيث روائح الزهور العطرة، والطيور الجاثمة على البرك المائية المنتشرة، والمسطحات الخضراء التي تعانق مياه البحر في مضيق (البوسفور) البديع.
كنت أستحضر تاريخ هذه الحديقة الغناء وأنا أتجول في أنحائها، وكيف أنها كانت مخصصةً للسلطان وحريمه وكبار الشخصيات، وأنها عُدَّت في عام 1912م مساحةً عائليةً رومانسيةً تضمُّ الدفء والسكينة، لتتحوَّل إلى معلمٍ حميميٍّ شعبيٍّ للسكان المحليين ومَن يزورها من السياح، كان بإمكانك أن تلحظ تجاعيد الزمن على وجوه أشجارها الضخمة التي يرجع بعضها إلى القرن التاسع عشر كما تشير بعض الدراسات، ولعل مما يزيد من جمال هذه المساحة الخضراء ويجعلك تعيش معها في زمنٍ آخر تلك التماثيل المتناثرة في أرجائها، ومن أشهرها تمثال مؤسس الجمهورية التركية (مصطفى كمال أتاتورك)، و(العمود القوطي) الذي يُعدُّ ذكرى مهمة لانتصار (الرومان) على (القوط).
كانت الأيام تمر بسرعة في (إسطنبول)، وكانت الآمال بزيارة أكبر عددٍ من المعالم تصطدم بقِصر الليالي الست التي بدت للوهلة الأولى مناسبةً وكافية، غير أننا اكتشفنا فيما بعد أنَّ مثل هذه المدينة العريقة تحتاج إلى أكثر من هذا العدد لزيارة أهم المعالم السياحية والتراثية فيها، فضلاً عن التجول فيها الاستمتاع بأجوائها التي بدأت في الاعتدال في النصف الثاني من المدة المحددة، ولهذا كانت الوجهة القادمة مضيق (البوسفور) الذي تطلُّ عليه (إسطنبول) فيمنحها جمالاً فوق جمالها الأخَّاذ.
الحقُّ أنَّ زيارة المضيق والركوب فوق أمواجه لم يكن مقصوداً في البداية، كنا منطلقين في الأصل إلى (شارع الاستقلال) و(ميدان تقسيم) الشهيرين، غير أننا صادفنا في طريقنا أحدهم داعياً بحماسة إلى تجربة امتطائه، ولمعرفتي بتاريخ هذا المضيق الشهير لم أتمكن من مقاومة رغبتي في خوض هذه المغامرة، رغم وجود الأطفال والعربة التي تحملهم، إلا أنَّ كلَّ صعوبةٍ في حملهم وحملها تلاشت حين امتطينا المركب اللطيف الذي حمل رجالاً ونساء من جميع الجنسيات جاؤوا من أقاصي الأرض شوقاً إلى هذه المدينة الحالمة، وطمعاً في الاستمتاع بهذه الرحلة البحرية البديعة التي ستستمر ساعتين كما أخبرنا المسؤول بذلك.
عرفتُ عن المضيق بأنه يربط بين (البحر الأسود) و(بحر مرمرة)، ويعد مع مضيق (الدردنيل) الحدود الجنوبية بين قارة آسيا وأوروبا، طوله 30 كلم، وعرضه يتراوح بين 550م و3000م، وأن مياهه مصنفةٌ ضمن مجال الملاحة الدولية، وتعدُّ حركة السفن فيه واحدة من أهم نقاط الملاحة البحرية في العالم، وأنَّ ضيقه في بعض مناطقه أدَّى إلى وقوع بعض الحوادث الخطيرة؛ كذلك التصادم الذي حدث عام 1994م بين سفينتي نفط وقتل فيه 25 بحارا، وفي عام 2005م غرقت فيه باخرةٌ باناميةٌ في ظروفٍ غامضة، كانت هذه الأهمية وتلك المشاهد تدور في مخيلتي ونحن نعبر فوق أمواج هذا المضيق التاريخي. كانت المناظر التي تواجه عينيك في هذه الرحلة أشبه بالخيالات، كان الجمال يحيط بنا من كلِّ جانب، إلى الدرجة التي يصيبك معها الارتباك إلى أيِّ جهةٍ تنظر، خوفاً من أن يفوتك مشهدٌ بديعٌ من مشاهد (البوسفور) الاستثنائية، فـ(إسطنبول) بدتْ من مركبنا لوحةً فنية مدهشة، وفي اليسار يبرز عرش (الملك سارى برونو) البديع، وإلى اليمين تصافحك منطقة (كادي كوي) الجذابة، ثم تبصر (الأسكودار) بمساجدها التاريخية و(قصر السلاطين) المتراخي في عرشه من الحدائق الخضراء، ويواجهك مسجد (أرتاكوي) الذي يقع بالقرب منه إحدى دعائم جسر (البوسفور)، وهي منطقة شهير بالآثار الهامة.
بعد هذه الجولة الرائعة أكملنا طريقنا إلى ميدان (تقسيم) قلب المدينة الحديث، وشارع (الاستقلال) المتفرِّع عنه، كانت خرائط (قوقل) تشير إلى أننا قريبون منهما بعد أن ودَّعنا مياه (البوسفور) الذهبية، غير أنها لم تخبرنا أنَّ الطريق إليه كان وعراً للغاية، حيث كانت أغلب الطرق تتجه صعوداً بصورة يصعب معها السير على الشخص العادي، فما بالك بمن يدفع عربة تحمل طفلين!
وصلنا بعد لأي إلى الشارع الشهير، كان جمال جنباته تنسيك طوله البالغ 3 كيلومترات، حيث المباني الأثرية ومحلات الملابس والمعارض والمكتبات ودور الملاهي والسينما ومجموعة من السفارات والقنصليات الدولية، كما يخترقه (المترو القديم) الذي أقيم منذ العهد العثماني، أما ميدان (تقسيم) الذي يقع نهايته فهو الخاتمة الأجمل لهذا الشارع البديع، يزينه ذلك النصب التذكاري للجمهورية التركية بمناسبة تأسيسها عام 1923م، شكرتُ الله أني لم أصادف فيه مظاهرةً أو تجمعات، حيث يشكل هذا الميدان مسرحاً هاماً للتظاهرات السياسية منذ وجوده، ونقطة لانطلاقها، وشهد إصاباتٍ بليغةً ومجازر مروعةً في أعوام 1969م و1977م و2000م، غير أنه يشهد أيضاً تجمعات لمناسبات رسمية أو دينية، كليلة رأس السنة ويوم الجمهورية، وغيرها.
ومما تشتهر به (إسطنبول) ويميزها تلك (البازارات) الضخمة التي تتوزع في أرجائها، وهي جميلةٌ لمحبي اقتناء التحف واللوحات والمنحوتات والأثريات والملابس الشعبية التي تعبر عن ثقافة الشعب التركي، وتعدُّ مكاناً ممتازاً للتبضع وشراء هدايا للأحبة، فهناك (البازار الكبير)، وهناك (البازار المصري)، وفيهما يجد الزائر جمال التسوق والفرجة الماتعة، وهناك تمتلئ المحلات بأشهر ما يميز تركيا، ولن تستطيع أن تتمالك نفسك دون أن تخرج بمجموعة متنوعة من (حلوى الحلقوم)، و(العسل) بأنواعه الشهيرة، و(البقلاوة) الغارقة بالماء المحلى (الشيرة)، والأقمشة واللوحات والكؤوس التذكارية التي تزينت بأشهر معالم (إسطنبول).
ولم نشأ أن نختم زيارتنا إلى هذه المدينة الحية دون أن نطلع على آخر ما توصَّل إليه الفن الحديث من أعمالٍ فنيةٍ وجمالية، لذا كان لا بُدَّ من زيارة (متحف الفن الحديث)، الذي يشتهر باحتوائه على مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المعاصرة، وتبلغ مساحته 8 آلاف متر، وموقعه المتميز على مضيق (البوسفور)، كان الدخول إليه في غاية السهولة والانسيابية، والأجمل من ذلك تلك الأعمال الساحرة المبتكرة التي تجذب عشاق الفنون البصرية والتركيبية والسمعية المعاصرة، حيث يعدُّ مساحةً لتلاقي الأفكار المتلاحقة التي أثَّرت في الثقافة التركية من خلال احتواء مختلف أشكال الفنون الحديث. أما آخر أيام (إسطنبول) فكانت مقسمةً نهاراً بين زيارة قصر السلاطين (دولما بهتشه) الذي سبق أن شاهدناه من على رحلتنا البحرية في مضيق (البوسفور)، حيث بني هذا القصر عام 1865م، وصار مقراً لحكام السلاطين العثمانيين حتى عام 1922م، ويتميز ببنائه الضخم وموقعه البديع، أما حديقته الواسعة المطلة على المضيق فقد كانت استراحةً لنا بعد أن اكتشفنا بأنَّ القصر يغلق أبوابه في وقتٍ مبكر من عصر ذلك اليوم، ولم يكن أمامنا إلا الاستلقاء تحت إحدى أشجاره الضخمة بعد يوم طويل شاق، أما في المساء فقد كان خاصاً بزيارة أشهر وأكبر أسواق (إسطنبول) الذي يضم أكبر مدينة ترفيهية (فيالاند) التي تم إنشاؤها على غرار (ديزني لاند)، ولأنَّ الخيارات في السفر مع الأطفال دائماً محدودة، لم يكن أمامنا إلا الاكتفاء بالمشاهدة دون خوض مغامراتٍ ماتعةٍ ترفيهية، والتجول في هذا السوق الضخم، وتذوق أشهر الوجبات التركية: (الشاورما) (والكفتة) و(الكباب) وبقية المشويات، وهكذا أسدل الستار على آخر ليالي (إسطنبول)، بانتظار صباحٍ جديدٍ ومغامرةٍ فريدةٍ في مدينةٍ أخرى من مدن (تركيا) في هذه الرحلة الحالمة.