د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
خلَّف أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429 هـ تراثاً تأليفياً ضخماً، حيث تجاوزت مصنفاته المئة كما تابعها بعض الباحثين، تنوعت في تخصصاتها، وتوزعت بين الأدب واللغة والتاريخ والتأليف الموسوعي، موجها عنايته في معظمها إلى دراسة أدب مرحلته وثقافة عصره.
والعنوان أعلاه هو أحد مؤلفات الثعالبي اللطيفة الطريفة، يقوم على جمع النصوص ضمن تقسيم يعتمد على النظر إلى العلاقة بين طبقة القائل أو جنس صناعته أو تخصصه، وبين طبيعة القول الصادر عنه، وهو منهج لا يمكن أن يوصف بالابتكار والجدة، حيث سبق أن ألف كتباً وفق هذا المنهج، كما فعل في (برد الأكباد) و(التمثيل والمحاضرة) و(خاص الخاص)، فضلاً عن سبق الجاحظ له في هذا الميدان، إلا أنه يبقى امتداداً لمنهج طريف اعتمد على التنبه إلى أثر التخصص والبيئة العلمية في الإنتاج الإبداعي.
وقد أخرج الثعالبي هذا الكتاب الصَّغير في ستة عشر باباً، خاصاً كل باب بصنف من الناس، باختلاف طبقاتهم وتخصصاتهم، وأنواع حرفهم وصناعاتهم، فجعل باباً للملوك والأمراء، وآخر للأدباء والنحويين، وثالثاً للفقهاء، ورابعاً للأطباء، وخامساً للقصاص والمتصوفة، وهكذا.
ورغبة في التعرف على هذا الكتاب اللطيف عن قرب، وسعياً إلى مشاركة القارئ الكريم جمال ما نقله الثعالبي فيه، أحببت أن أذكر في هذه المساحة نماذج مما أورده المؤلف من نصوص تحمل قدراً كبيراً من الطرافة والجمال، وتكشف بوضوح في متعة ظريفة عن الأثر الذي تحدثه البيئة والتخصص والمنزلة الاجتماعية في الإنتاج الإبداعي والعلاقة الكبيرة بينهما.
ففي باب الملوك والأمراء يروي المؤلف:
- أن (الاسكندر) حين توجَّه لمحاربة (دارا) أحد أكأسرة الفرس قال له جواسيسه: إنَّ (دارا) في ثمانين ألف مقاتل، فقال: إنَّ القصَّاب لا تهوله كثرة الغنم!
- وحين أشار عليه جيشه تبييت (دارا)، أي: مفاجأتهم في الليل، قال: أما علمتم أنَّ البيات سرقة! والملوك لا تكون سُرَّاقا!
- وروى أنَّ مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية كتب إلى الخارجي الشيباني: أنا وإياك كالحجر والزجاجة، إن وقع عليها رضَّها، وإن وقعت عليه قضَّها!
- وكان المأمون يقول: إنما تُطلب الدنيا لتُملك، فإذا مُلكتْ فلتُوهب.
- ويقول: لو عرف الناس رأيي في العفو لما تقرَّبوا إليَّ إلا بالجنايات.
- وكان ابن خوارزم شاه يقول: همتي كتابٌ أنظر فيه، وحبيبٌ أنظر إليه، وكريمٌ أنظر له.
- ويقول: نحن نوجب الصِّلات كإيجاب الصَّلاة.
وفي باب الأدباء والنحويين يروي الثعالبي:
- عن أبي الفتح البستي أنه قال حين عُزِل:
أغِثْ أيها الشيخ الجليل فإنني
دُهيتُ بما قد كنتُ منه أخافُ
عُزلِتُ وغيري مثبتٌ في مكانه
كأني نونُ الجمعِ حين تُضافُ
- وله أيضاً حين طلب بعضهم مالا:
وبصيرٍ بمعاني الشعرِ
والإعراب جِدَّا
قال لي لما رآني
طالباً نيلاً ورِفْدا
إنَّ مالي يا خليلي
لازمٌ لا يتعدَّى
- ويروي الثعالبي عن نصر العتبي غزلاً يقول فيه:
فديتُ من وجّهه بالحسن مخطوطُ
وخدُّه بمداد الخال منقوطُ
تراه قد جمع الضدِّينِ في قَرَنٍ
فالخصر مختصرٌ والردف مبسوطُ
- وعن أبي سعيد الرستمي في الشكوى:
أفي الحقِّ أن يُعطى ثلاثون شاعراً
ويُحرم ما دونَ الرِّضى شاعرٌ مثلي
كما أُلحقِتْ واوٌ بعمروٍ زيادةً
وضُويق بسم الله في ألف الوصلِ
وفي الباب الخاص بالكتاب يروي الثعالبي مجموعة من الحكم الجميلة التي تتصل بهذه الصناعة، فيروي:
- قولهم: عقول الناس تحت أسن أقلامها.
- وقولهم: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ ولم يُمَلّ.
- وعن أحمد بن يوسف: الخط لسان اليد.
- وعن ابن فرخان شاه: القلم الرديء كالولد العاق.
- وعن المبرد: رداءة الخط دناءة الأدب.
- وقال غيره: الدواة أنفع الأدوات.
- وقال آخر: صرير الأقلام كصليل الحسام.
- وعن صاحب الكتاب: رُبَّ رقعةٍ تفصح عن رقاعة صاحبها.
وفي الباب الذي عقده المؤلف لكلام الفقهاء يورد منه ما جرى مجرى المثل:
- كقولهم: إذا جاء النص بطل القياس.
- وقولهم: إذا زلَّ العالِم زلَّ العالَم.
- وقولهم: لو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف.
- وعن أبي الفتح البستي يورد الثعالبي قوله:
مدحتكَ للضرورة لا لأني
رأيتكَ مستقلاً بالثوابِ
ولمَّا لمْ أجدْ ماءً طهوراً
أُتيحَ لي التيمم بالترابِ
- وعن أبي حفص المطوِّعي:
وشادنٍ شيعويِّ الفقه قلتُ لهُ
وزندُ نار الهوى في مهجتي واري
بالله فيمَ بنار الشوق تقتلني
فقال: عندي يجوز القتل بالنارِ
وفي باب ذكر المحدِّثين وأشعارهم وأمثالهم يختار لنا الثعالبي قولهم:
- إعادة الحديث أشد من نقل الصخر.
- كثرة السماع مضلة الفهم.
- الخبر إذا تواتر به النقل قبله العقل.
- من طلب غرائب الحديث كذب.
وفي باب القصاص والمتصوِّفة يروي الثعالبي عنهم:
- نُور الحقيقة أحسن من نَور الحديقة.
- من كرامة الخبر ألا يُنتظر به الأدُم.
- الدنيا ساعة فاجعلها طاعة.
- إنَّ الليل والنهار يعملان فيكَ فاعمل أنتَ فيهما.
- قال بعضهم: حالي مرقعَّةٌ، فإنَّ تحرَّكتُ فيها تخرَّقتْ.
- وقال آخر: لكل شيءٍ زكاة، وزكاة الدار بيت الضيافة.