د. خيرية السقاف
هذا الفتى الطامح التقيته، وكنت مشوقة لمعرفة ما يدور في مدرسته من شؤون، وما يسأل عنه من تكاليف مدرسية تتعلق بمقررات درسه, أو بأنشطته الخارجية, وما إذا كان معلموه يربطون خبراتهم التعليمية بخبرات المجتمع..؟
فذكر لي عن واجب كلفه وزملاءه به معلمُهم الذكي له علاقة بالحياة العامة, فتابعته بنهم المشوق لمعرفة فكرة الموضوع, فاستطرد بهمة يقول: «معلمنا كلفنا بالكتابة عن أهمية استخدام «الانترنت», وطرح لنا تجربة غربية كانت نتائجها انعزال الناس في قريتهم عن بعضهم, جيرانا وأفراد أسر, وسألنا إن كنا نرى في «الانترنت» من فوائد ومساوئ فندلي بها.
سألته أن يحدثني عما يرى، فقال لي: «الانترنت إنجاز بشري عملاق, قرَّب البشر من بعضهم, وجعلهم عالما كونيا واحدا, وأفادهم بسرعته من التعارف, وتبادل الثقافة, والعلوم, والفنون, والإبداع, إضافة إلى خدماته العامة فيما سموه بالحكومة الإلكترونية، يصل المرء عنه وهو في مكانه إلى البنك, وشركات الخدمات, والجامعات, والمدارس, بل الناس حيث يكونون, وما يفعلون, بل عنه يصل لتنفيذ شؤونه النظامية المرتبطة ببطاقة أحواله, وجواز سفره, وحجز مقعده في المركبة, وكل ما يضاف إلى ذلك من الترفيه, والمشاركة في مواقع التواصل، لكنه أساء لجذور العلاقات داخل الأسر, فشتت شملهم, وعزلهم عن بعضهم, وعن الجيران, والأقارب, والمجتمع الخاص, والعام, اكتفى الفرد برسالة عن طريق برامجه المختلفة يشارك في مرض, أو فرح, في عزاء, أو عيد, في رأي, أو موضوع, يكتفي بهذا, توقف عن اللقاء, والنقاش المباشر, والتفاعل البشري الحيوي, فزادت عزلة هذا الفرد, بل استجدت له أمراض داهمته في جهازه العصبي, والنفسي, وفي عظامه, وقلبه, بل أثرت في سلوكه فتوحد, وانعزل, واكتأب, وانطوى..
ثم أضاف: بل تعلم عن هذا المنجز وتعرف الكثير المتنوع من الخبرات التي شرخت بنية سلوكه, وأخلاقه, وأثرت في مفاهيمه, وجرحت قيمه. عن طريق الصور التي ينقلها بلا ضوابط, وسهولة الوصول إلى ما كان في دائرة لا تسمح بها الأخلاق, ولا تتفق مع قيمها, وتطور الأمر إلى تأثير ذوي الأغراض, والمجرمين, وسيِّئي الخلق, في شرائح كثيرة من الشباب قد وصلت بهم النتائج إلى انخراطهم في الجماعات الإرهابية, وخروجهم عن جادة الطريق, وانفصالهم عن أوطانهم, وخروجهم عن المعقول.»
استمعت بإصغاء عميق لما يقول ابن الخمس عشرة سنة وداخلي يتقافز فرحا, وسرورا بهذا الوعي العميق, والنظرة الثاقبة, والمعلومات الدقيقة، وذهبت أقارن هذا الجيل بمن سبقه, مدركة تماما أن ما مسَّ هذا الجيل من شوائب زمنِه, عوَّضه بديلا عنه هذا الكم الثري من المعلومات التي يحصدها, والإدراك الذي يضيء, وقدرة التحليل الثاقبة, وبعد النظر, وسعة البصيرة, مع إكباري لمعلمه الذي يبدو أنه تربوي محترف.
بقي أن أقول: إن هذا الجيل يحتاج من وزارة التعليم للكثير من العناية به, ليصل بمقدراته ومداركه إلى الإنجاز المضيف لمسيرة الحياة ما تسعد به البشرية, يخفف عنها وعثاء دروب تأخذها إليها مثالبُ كثيرٍ من المنجزات المهمة التي لها وجهان على حد سواء, من الإفادة أحدهما, والآخر من المضرة.
أحيي هذا الفتى، ومدرسته وجميع المدارس التي تعنى بتحفيز طلابها على البحث, والتفكير، والمقارنة, والخلوص بنتائجهم الشخصية, ما يزيد من خبراتهم, ويصقل مداركهم, ويربطهم بالواقع, ويدمج خبراتهم بما يثريهم.