د.عبدالله مناع
رغم النجاحات التي تحققت لثورة الثلاثين من يونيه - 2013 م - ولـ(خارطة المستقبل) التي صدرت عن قيادتها (الوطنية) - من الأزهر والكنيسة وجبهة الإنقاذ وحزبي الوفد والنور وشباب تمرد.. إلى جانب قيادة الجيش - في الثالث من شهر يوليه: بـ(تعطيل) دستور 2012م الإخواني وسحب الثقة من الدكتور مرسي، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية (عدلي منصور).. رئيساً مؤقتاً لمصر، وبـ(تعديل) الدستور،
وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة - وهي التي جاءت بالفريق عبدالفتاح السيسي في شهر مايو من عام 2014م لسدة الرئاسة المصرية.. بعد فوزه على مرشح الناصرية (حمدين الصباحي).. ليعقبها إجراء انتخابات برلمانية، جرى تحديد مواعيدها في السابع عشر.. إلى التاسع عشر من هذا الشهر، لمواطني الداخل والخارج من المصريين.. لتكون المحطة الأخيرة في هذه (الخريطة المستقبلية)، الذي شكك الأمريكيون وبعض الأوروبيين من قبل في إتمام إنفاذها على أرض الواقع، معتقدين بأن ما جرى في الثلاثين من يونيه ليس بأكثر من (انقلاب) لإعادة (العسكر) إلى حكم مصر.. بعد سقوط رابعهم (مبارك)!؟ وهو ما لم يثبت بدليل إنفاذ (خارطة المستقبل)، وبكل حذافيرها.. وصولاً إلى تحديد مواعيد لإجراء الانتخابات البرلمانية أو التشريعية، دون خشية من أن تعيد هذه الانتخابات مجدداً برلمانات (مبارك)، التي كانت أغلبية مقاعدها.. حكراً على حزب الرئيس (الحزب الوطني)، وأقليتها.. حكراً - في عمومها - على (الإخوان).. حتى قبل أن يسموا أنفسهم بـ(حزب الحرية والعدالة).. أو كما كانوا يصنفون أنفسهم: (الذراع السياسية) لجماعة الإخوان..!
* * *
لكن (الإشكالية) في هذا البرلمان القادم.. تسبق الخشية من صورته النهائية التي سيكون عليها، فحزب (النور) السلفي.. الذي جاء من رحم (الإخوان) وتربى في أحضانهم، وصال وجال طوال سنة حكم مرسي، وما قبلها.. حتى قُتل طالب هندسة جامعة السويس على يد نفر من أعضائه، بحجة وجوده في (خلوة) مع خطيبته على شارع الكورنيش..! عاد ليقفز فجأة من عربة (الإخوان).. بصورة (نفعية) مضحكة، بعد أن تأكد له أن ساعات (مرسي) قد أصبحت معدودة في قصر (الاتحادية).. أمام تلك الملايين الحاشدة الزاحفة التي كانت تملأ الشوارع والميادين، وهي تطالب بتنحيه.. وتنحية (الإخوان) عموماً عن حكم مصر، لينضم إلى قادة (الثورة).. بل ويعلن عبر المايكروفونات وعبر (كاميرات) الشاشات الفضائية عن تأييده لها، ولقراراتها، ولـ (الخارطة المستقبلية) التي وضعتها لإدارة البلاد في المرحلة الانتقالية.. وهو ما جعله يأخذ مكانه بين تلك القيادة (الوطنية) التي تم تشكيلها في ذلك اليوم. فكيف يمكن استبعاده إذا أراد خوض الانتخابات البرلمانية عندما يتحدد موعدها؟
لكن لجنة صياغة دستور 2013م الخمسينية.. التي عملت بمهنية دستورية عالية برئاسة (عمرو موسى) حظرت قيام أحزاب سياسية على أسس دينية (نصاً).. وهو الحق. فكيف يمكن السماح لـ(حزب النور) تخصيصاً بخوض هذه الانتخابات القادمة بعد أيام، أو لتلك الأحزاب الدينية التي تكاثرت حتى أصبحت سبعة أحزاب.. وإن تخفَّت تحت مسميات غير دينية..؟!
وسط هذا (الجدل) حول السماح لحزب النور بدخول الانتخابات البرلمانية - التشريعية - من عدمه، الذي شغل الصحافة طوال أشهر الصيف الماضية.. وقبل أن تتحدد مواعيد إجرائها في هذا الشهر (أكتوبر)، كانت هناك قوى سياسية تتقدم بطلب حل حزب النور (بعد أن نص الدستور على عدم جواز إنشاء الأحزاب على أساس ديني).. لكن الحكم صدر بـ (عدم حل الحزب)، وهو ما تكرر.. عندما تقدم رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان (المحامي نجيب جبرائيل) بطلب حل حزب النور لـ (محكمة القضاء الإداري).. إلا أن المحكمة حكمت بـ(عدم جواز حل الحزب بعد تقدم «النور» بمستندات حول لوائحه الداخلية تؤكد أنه ليس حزباً دينياً)!! وهو ما تكرر ثانية عندما رفضت المحكمة الإدارية العليا النظر في قضية رفعها محامون بحل حزب النور.. وجاء منطوق الحكم: (حكمت المحكمة بعدم جواز إحالة الدعوة إليها، وأمرت بإعادتها إلى محكمة القضاء الإداري لنظرها والفصل فيها).. وهو ما تكرر ثالثة عندما تقدم (تيار الاستقلال) بنفس الدعوى لحل الحزب..؟! وهو ما جعل الكثيرين من السياسيين والإعلاميين والصحفيين والكتاب يتساءلون بدهشة عن سر هذا الموقف القضائي غير الدستوري..؟ وهل كان مجاملة لـ(حزب النور) على وقفته المؤيدة لثورة الثلاثين من يونيه.. أو ترضية له لانقلابه على (الجماعة)..؟!
وأياً كانت (الحقيقة) الغائبة في هذا الجدل حول (حزب النور السلفي)، فإن رئيسه (يونس مخيون) حامل درجة الدكتوراه في الهندسة وجد فرصته.. في أن يؤكد بأن حزبه ليس دينياً.. كما كان يقول قبل وصول (مرسي) إلى قصر الاتحادية.. متناسياً كل تجاوزات حزبه، وأن من بين أعضائه.. أقباط مصريون، وأن له برنامجه السياسي في العدالة الاجتماعية والتنمية ومكافحة الفقر والبطالة وحرية المواطن وحقوقه، والدفاع عن الوطن وحريته واستقلاله.. كبقية الأحزاب الأخرى، إذ يبدو أن بعض هذا أو كله.. كان من بين أسباب (اللجنة العليا للانتخابات) في فتح قائمة الأحزاب لتسجيل ما شاء له من المرشحين، ليصبح حزب النور على رأس القوائم الأربعة الكبرى بأعداد مرشحيه.. إلى جانب حزب (حب مصر)، و(التحالف الجمهوري) و(ثورة مصر)، والذين سيتنافسون على عدد محدود من مقاعد البرلمان الجديد، لا تزيد عن مائة وعشرين.. إلى مائة وأربعين مقعداً، أمام القوائم الفردية التي خُصص لها أربعمائة وعشرين إلى أربعمائة وأربعين مقعداً.. حتى لا تقع الأغلبية البرلمانية في يدي حزب من أحزاب القوائم الكبرى.. فضلاً عن الصغرى، وهو ما يكشف بحق عن حصافة (اللجنة العليا للانتخابات) ودهائها..!
* * *
على أي حال.. تبقى الإشكالية الثانية لهذه الانتخابات.. مع (الحزب الوطني) المنحل.. وحشود أعضائه السابقين الذين كانوا يتربعون على مقاعد البرلمان بـ(الوساطة) والوجاهة أو بالتقرب إلى أمين عام لجنة السياسات في الحزب، والذين سينقضون هذه المرة على القوائم الفردية.. بعد أن حُرموا من الدخول إلى القوائم الحزبية لـ(الفوز) بها أو للاستيلاء عليها ببقايا نفوذهم القديم، وبأرصدتهم (المتلتلة).. والتي جعلت من أغلبيتهم بعد واحد وثلاثين عاماً من حكم مبارك.. (قططاً سماناً) تستطيع أن تشتري مقاعدها البرلمانية بأي تكلفة كانت: سواء بألف.. أو بعشرة.. أو بعشرين ألف أو أكثر، فما تتداوله الأوساط المعنية بـ (بورصة) الانتخابات.. همساً، يدور في أرقام.. يكاد لا يصدقها العقل لشراء أصوات الناخبين، وهو أمر.. لا تستطيع (اللجنة العليا للانتخابات) أو مؤسسات المجتمع المدني المحلية أو الدولية لمراقبة الانتخابات.. اكتشافه.. فضلاً عن منعه، ورحم الله أيام الثلاثينيات التي كان يصبح فيها للفلاح المعدم والمهمل طوال الوقت.. قيمة ولـ(صوته) ثمن، وهو ما عبر عنه الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه (تحت شمس الفكر).. عندما قال بلسان أحد الفلاحين: (أصلها كانت أيام «استنخاب»، ركبنا فيها «قنابيل»، وأكلنا زفر، ودخلت جيوبنا «نقدية»).. ولم تكن تلك «النقدية» تزيد - في أحسن الأحوال - عن «جنيه» مقسوم إلى نصفين: (نصف).. قبل الإدلاء بصوته كناخب، والآخر.. بعد الإدلاء بصوته..!
إن الإشكالية التي سيقود إليها دخول أعضاء الحزب الوطني المنحل بأموالهم.. في هذه الانتخابات تحت مسمى (المستقلين).. هي (حرمان) أصحاب ثورة الثلاثين من يونيه الحقيقيين من الفوز بمقاعد يستحقونها في هذا البرلمان الجديد.. لضيق ذات اليد أمام أصحاب الملايين من أعضاء الحزب الوطني المنحل، وهو ما قد يعطي مصر.. في النهاية برلماناً لا يعبر عن أحلام وطموحات وآمال ثورة الثلاثين من يونيه.
* * *
إن الاهتمام بهذه الانتخابات البرلمانية المصرية، وتسليط الأضواء عليها.. لا يأتي من فراغ، ولكنه يأتي نتيجة لهذا الصراع الدامي المروع، الذي شهدته المنطقة العربية طوال السنوات الخمس الماضية.. منذ أن انطلق ما سمي بـ(ربيع الحرية) من تونس إلى مصر.. بين: الإسلام السياسي والقوى الوطنية المدنية.. في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن.. بدرجاته المتفاوتة، التي أسفرت عن أعداد مهولة من الضحايا الأبرياء، ودمار وخراب لم تشهدهما تلك الأوطان العربية في أسوأ سنوات استعمارها.. إلى جانب عشرات الآلاف من المهاجرين العرب الذين ألقوا بأنفسهم وأسرهم وأطفالهم على شواطئ أوروبا المتوسطية الجنوبية.. بحثاً عن مأوى ولقمة عيش.. في مشاهد تليفزيونية مؤسفة محزنة مخزية يندى لها الجبين! بأمل أن تخرج مصر.. من هذه الانتخابات بـ(برلمان) واع، يخدم أبناءها في حاضرهم ومستقبلهم ويعبر عن مصر وحضارتها وثقافتها ودورها العربي الذي ما يزال معطلاً، وهو يفرز (حكومة) نزيهة مستنيرة ذات كفاءة، تدرك قيمة وأثر قواها الناعمة، فتعيد تفعيلها.. لتلعب دورها الملهم والخلاق في الوطن العربي.. حتى تسترد (مصر) مكانتها السابقة مجدداً.
فـ(مصر).. رغم ضوائقها الاقتصادية، تبقى بيت العرب الكبير.. وتبقى (عاصمتها) القاهرة: قلب العروبة النابض عند كل العرب.