د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
(يا ليل (الطَّبُّ) متى غده
أقيام الساعة موعده)
من أهمّ أهداف أيّ نظام صحي، تيسير حصول المريض على الرعاية الصحية.. و(النظام الصحي) في المملكة نصَّ في مادته الثانية على أن الهدف هو توفير الرعاية الصحية الشاملة والمتكاملة لجميع السكان بطريقة عادلة وميسّرة، وتنظيمها..
وقانون الصحة الكندي أكّد على حق كل السكان المؤمّن لهم في الحصول على نفس المستوى من الرعاية الصحية، و(دخول) مرافق الرعاية الصحية بطريقة عادلة ومنظمة (reasonable access).. ويُلاحظ في هذين المثالين استخدام عبارة (الرعاية الصحية) وليس (الخدمات الصحية)، لأن توفير الخدمات الصحية - من مبانٍ وقوى عاملة وتجهيزات ونظم... إلخ - هو لغرض تقديم الرعاية الصحية وتيسير الحصول عليها.. لذلك يحق للمريض أن يتساءل: ما الفائدة من كل تلك الخدمات، إذا كنت لا أتلقّى الرعاية التي أحتاج إليها في الوقت والمكان المناسبين؟.. عوائق الحصول على الرعاية اللازمة عديدة - منها بعد المسافة، عجز المريض عن الانتقال، دوام العمل، عدم الأهلية للعلاج، عدم توافر الخدمة نفسها... إلخ - وترجع هذه العوائق إلى عوامل يمكن معالجتها بشكل أو بآخر.. على أن عاملاً من صنع النظام الصحي قد يجعل الحصول على الرعاية اللازمة في الوقت والمكان المناسبين صعباً: ذلك هو الخلل في نظام المواعيد.. وسأمثّل بالنماذج التالية:
أ - تباعد مواعيد الفحوص التي يطلبها الاستشاري لحالة مرضية تُعرض عليه لغرض تشخيصها، ومن ثَمّ تقرير علاجها، مثلاً: تحليل دم - تخطيط قلب وفحص إجهاد - أشعة صوتية أو فحص نووي، أو في مثال آخر: تخطيط سمع - أشعة طبقية - MRI.. (وربما يُطلب أيضاً موعد مع طبيب من اختصاص آخر، لتأكيد تحمُّل المريض للعلاج).. فالمريض إذن يركض لتسجيل موعدٍ لكل فحص، فيجد موعداً للأول بعد أسبوع، وللثاني لا يستطيع حجزاً الآن، لأن الجدول ممتلئ لمدة شهرين وبعد شهرين يحضر لحجز الموعد، ويتجه للثالث، فيقول موظف التسجيل بأنه سيبعث الطلب للقسم المختص، ليحدّد الموعد ثمّ (نبلغك) هاتفياً.. وقد ينسى الموظف، فيراجعه المريض بعد نفاد صبره، ليعرف أن موعده بعد شهرين.. وبعد إجراء الفحوص يطلب المريض موعداً مع الاستشاري فيحصل عليه حسب جدول المواعيد.. المشكلة هنا هي معاناة المريض - بدرجة تختلف حسب الحالة - لعدة شهور حتى يتضح التشخيص، ثم بعد ذلك العلاج!.. السبب في المشكلة ليس الاستشاري الذي يكون قد طلب المراجعة بعد أسبوعين مثلاً، ولا موظف التسجيل الذي يلتزم بما على شاشة الكومبيوتر من جدول، ولا القسم المختص الذي يتلقى طلبات مماثلة من عدة أخصائيين لا يستطيع أن ينفذها في وقت قصير.. المشكلة تكمن في النظام نفسه، لأنه:
- أولاً: قد لا يوجد تنسيق بين العيادات وأقسام التسجيل للمواءمة بين وضع جدول المواعيد، وحالة المريض.
- ثانياً: لا يوجد تسجيل موحّد لكل تخصص طبي (القلب - الأذن والأنف والحنجرة - الجراحة...إلخ)، بحيث يستقبل ما يطلبه الاستشاري لمريض معيّن من فحوص ويعمل على حجز مواعيد متقاربة لتلك الفحوص، يُبلّغ المريض بها هاتفياً بعد يومين مثلاً.
- ثالثاً: لا توجد مرونة للخروج من ضيق المواعيد بالبحث عن مكان آخر خارج مرفق صحي آخر - حكومي أو خاص - لا سيما في الحالات التي لا تحتمل التأخير في المواعيد -، وهذا يتطلب إجراءً نظاميًا لتغطيته مالياً.
ب - قد لا يُراعى في تحديد الموعد درجة خطورة الحالة المرضية التي تحال للعرض على الاستشاري أو للتنويم، مثل التشخيص المبدئيّ بمرض سرطاني. الموعد قد يصل لعدة أسابيع أو أشهر، إمّا لنقص في الأسرَّة أو لازدحام جدول مواعيد الاستشاري، أو القسم المختص بعمل الفحص التأكيدي. لا يصح القول هنا بأنه لا يتحمّل عاقبة التأخير سوى جدول المواعيد، بل الأصح أن يوجد النظام أسلوباً لمراعاة حالة المريض عند تحديد موعد التنويم أو الفحص في ضوء تقرير الإحالة، إمّا بتخصيص خانة مفتوحة في جدول المواعيد، أو تخصيص وقت خارج الدوام، وإمّا بالترتيب مع مرفق صحي آخر -، وهو ما تفعله بعض الجهات الصحية الآن اجتهاداً.
ج - الطول البالغ لبعض المواعيد - لعدة سنوات أحياناً - يطبّق على الحالات المرضية التي لا تتطلب العجلة، لأن علاجاتها إمّا تعويضية مثل استبدال المفاصل أو تجميلية علاجية مثل البدانة وتقويم الأسنان أو إصلاحية مثل التشوهات، ولأنها تخصصات نادرة فالأطباء الذين يمارسونها محدود عددهم.. لكن طول الانتظار يطيل معاناة المريض، ولذا فإن البحث عن أيسر الحلول لازم، ولو بأسلوب الحوافز المالية والتوسع في الاستفادة المتبادلة بين القطاعات الصحية العامة والخاصة.
د - المواعيد (العرقوبية)، وهي تلك المواعيد التي تتحول إلى وعود لا يُوفَى بها ممّا يثير إحساس المريض بالمرارة والخيبة.. مثل مريض يطلب منه طبيبه المعالج أن يراجعه بعد ستة أشهر، ولكن موظف التسجيل يخبره بتعذّر حجز الموعد الآن، إنما بعد ستة أشهر.. ثمّ يأتي المريض فيجد أن الجدول مزدحم بالمواعيد مدة شهرين، وأن (السيستم) لا يقبل مواعيد الآن.. ومريض آخر يأخذ موعداً عند طبيب مختص، وعندما يحضر لا يكون الطبيب موجوداً - بل مساعده أو زميل آخر لم يلمّ بالحالة من قبل.. والأرجح أن هذا يعود إمّا لأن الطبيب مجاز ولا علم لموظف التسجيل بذلك، أو لأن الطبيب مرتبط بالتزام في مرفق طبي آخر لم يخبر به أحداً - لمخالفته النظام.. ومثل هذه المخالفة يفعلها بعض أعضاء هيئة التدريس تحت غطاء لائحة التعاون مع القطاع الخاص (صادرة عام 1412هـ)؛ أو أطباء حكوميون آخرون يعملون مع القطاع الخاص بطريقة غير نظاميه وبخُفْيه. إن الغرض من استعراض النماذج السابقة ليس حصرها - فهناك المزيد منها -، وإنما التذكير بأن نظام المواعيد هو وسيلة لتنظيم حصول المريض على الرعاية الصحية في الوقت والمكان المناسبين، وأيضاً ليُساعد العاملين الصحيين - أطباء وغيرهم - على تنظيم وقتهم للقيام بخدمة المريض، وهذا هو ما يتمنّاه الأغلبية العظمى منهم.. وأن مهمة النظام الصحي هي العمل على تلافي أسباب أي خلل في نظام المواعيد وتلافي إساءة استخدامه لمصلحة خاصة، كيلا يتحوّل إلى عقبة تعيق حصول المريض على حقه. إن بطء المواعيد أو عدم الوفاء بها قد يضطر بعض المرضى للجوء إلى الواسطة أو للقطاع الخاص أو الطب الشعبي وربما للسفر إلى الخارج؛ وفي هذا ما يفتح ثغرة تتسرّب منها الفوضى إلى نظامنا الصحي لتشوّه صورة خدماتنا الصحية المتطوّرة.