محمد سليمان العنقري
بعد إعلان اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ بين أمريكا ومجموعة من دول تلك المنطقة، تمثل نحو 40 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي، سارعت الصين والهند للمطالبة بالقيام بشراكة تجارة حرة إقليمية مع دول من شرق وجنوب آسيا كرد على اتفاقية عبر المحيط الهادئ؛ لأنهما تريان أن عدم دخولهما بتلك الاتفاقية سيتسبب في ضرر كبير، وخصوصاً للصين التي قالت إن من شأن ذلك أن يفقدها 2.2 في المئة من نموها المستهدف.
وفي حال نجحت بتوجهها الحالي لاتفاقية إقليمية فسيتشكل بذلك كتلة اقتصادية ضخمة، تضم 3.4 مليار نسمة، أي نصف سكان الأرض تقريباً.
وقد تسارعت ردود الفعل بتقديم المقترحات؛ فقال مسؤولون من كوريا الجنوبية إنه يمكن أن تتوسع اتفاقية عبر المحيط الهادئ؛ لتضم الصين وغيرها من دول آسيا الشرقية والجنوبية؛ ما يعني أن العالم سيتغير توجهه في المنافسة الدولية وتحرير الأسواق، وكذلك التغير المؤكد بخارطة التجارة البينية الدولية التي يتعدى حجمها 19 تريليون دولار سنوياً؛ فتصبح أسواق الدول المنضمة لتلك الاتفاقيات مفتوحة فيما بينها؛ ما يعطي أفضلية للسلع المنتجة بتلك الدول في أكبر أسواق العالم، بينما تبقى بقية الدول من خارج تلك الدول المتحالفة تجارياً بوضع صعب؛ إذ سيصعب عليها اختراق تلك الأسواق. كما أن حركة الاستثمارات ستنزح لها بالتأكيد بنسب أعلى؛ وبذلك ستتغير خارطة الاقتصاد العالمي في العقود القادمة.
ورغم أن بعض تلك الدول برزت فيها أصوات معارضة لتلك الاتفاقيات خوفاً من تدهور بعض الصناعات فيها؛ لأن دول شريكة سيكون لها أفضلية لتفوقها بالمنافسة، إلا أنه مع ذلك يرى الكثيرون أن الإيجابيات تبقى أكبر بكثير من السلبيات على المدى الطويل، وإن كانت منطقة اقتصادية مهمة كأوروبا لم تعبّر عن رأيها تجاه تلك الاتفاقيات، إلا أن المخاوف كبيرة من إمكانية ضعف منافستها بالتجارة الدولية مستقبلاً حتى وإن كانت التجارة بين دول أوروبا كبيرة، وتُعد كافية لبقاء اقتصادياتها متينة بالمدى المنظور، لكن اتجاه دولة عظمى مثل أمريكا إلى عقد هذا النوع من الاتفاقيات يوضح صعوبة ما ستواجهه من ضعف بنمو اقتصادها، وتراجع قد يفقدها المركز الأول بحجم الاقتصاد في العالم خلال عقود قليلة جداً، وهو ما يثير الشك حول مستقبل أوروبا إذا لم تحاكِ الاتجاه الأمريكي للتشابه الكبير بينهما اقتصادياً.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في خضم هذه التطورات العالمية اقتصادياً: ما هو مستقبل دول المنطقة العربية، وخصوصاً الخليج، في حال لم تنضم أو تشكِّل تحالفات، ينتج منها اتفاقيات تجارية مع مجموعة دول ذات أسواق ضخمة؛ حتى يبقى لها مجال للمنافسة دولياً، وتحسين اقتصادياتها؟ فهل ستقوم دول الخليج بالاتجاه لإقامة مثل هذه الاتفاقيات مع دول آسيا أو إفريقيا أو أوروبا، وكذلك أمريكا الشمالية أو الجنوبية، في إطار متكامل؛ لتكون الأسواق حرة فيما بينها، وبحجم اقتصادي ضخم، أو تسعى للانضمام لتلك المناطق التجارية الكبرى؟ وإذا كان عقد قمة عربية مع دول أمريكا الجنوبية، الذي سيعقد بالرياض الشهر القادم، ومن بين أهم أهدافه تعزيز الشراكات الاقتصادية، يُعدُّ خطوة جيدة، لكن لا بد أن يكون هناك انطلاقة حقيقية نحو عقد اتفاقيات ضمن تكتلات كبيرة، تساعد على توسيع التجارة البينية مع العالم، وكذلك توسيع قاعدة المنافسة لإعادة تأهيل القطاع الخاص الخليجي عموماً، والسعودي تحديداً؛ ليكون له مكانة كبيرة في العديد من الأسواق من خلال سلع وبضائع ذات جودة وأسعار منافسة، وأيضاً لكي يكون جاذباً للاستثمارات، وتتوسع الطاقة الاستيعابية في دول الخليج، وتنحسر معها الكثير من السلع والخدمات التي تستورد حالياً بمئات المليارات من الدولارات سنوياً للخليج، ويمكن إنتاجها محلياً؛ لتبقى السلع المستوردة بحدود مقبولة ونوعية، بينما تزداد الصادرات؛ لتخفض من حجم تأثير النفط، سواء بحجم الصادرات أو الإيرادات التي تتراوح بين 70 و90 في المئة حالياً لدول الخليج عموماً. فما زال الميزان التجاري عند استبعاد صادرات النفط يميل لصالح الواردات بثلاثة أضعاف صادراتنا غير النفطية.
السباق الملتهب على عقد تلك الشراكات في إطار تجمعات لدول، وليس لعلاقات ثنائية فقط، يُعدُّ تحولاً كبيراً باتجاهات الاقتصاد العالمي. ويبدو أنه من سيبقى خارج هذه الاتجاهات ولا يبنيها، أو يساهم في إنشائها، أو يسعى للانضمام لإحداها، سيواجه صعوبات كبيرة في تطوير اقتصاده، وستكون معدلات النمو ضعيفة، والتحديات أصعب، والأهداف التنموية ستواجه ضغوطاً لا يستهان بها مهما كانت الإمكانيات جيدة. فالخليج نسبة الشباب فيه مرتفعة؛ ويحتاج لملايين فرص العمل في السنوات العشر القادمة. فالسعودية على سبيل المثال بحاجة لقرابة 1.5 مليون فرصة عمل خلال السنوات الخمس القادمة؛ إذ يدخل سوق العمل نحو 300 ألف طالب عمل سنوياً؛ ما يعني أن التفكير الاستراتيجي البعيد يملي على دول الخليج أن تتجه لعقد شراكات جماعية مع كتل ومناطق جغرافية اقتصادياً لتحرير الأسواق، والتوسع في التجارة البينية؛ وهو ما سيقوي اقتصادياتنا، ويعزز مكانتها التنافسية على المديَيْن المتوسط والبعيد.