د. محمد عبدالله الخازم
عقب مقالي حول هيئتي تقويم التعليم والاعتماد الأكاديمي، اكتشفت أن أنصار الجودة كثر ببلادنا، وهذا أمر إيجابي. لكن الواضح أنه توجد قناعات لدى نسبة كبيرة منهم بأن الهيئتين غير مقنعتين في أدائهما وغير قادرتين على تحقيق الأهداف المثالية المنشودة من تأسيسهما. البعض عاتب عدم تقديري لأهمية الجودة ولم تصله رسالتي بأن الملاحظات التي أطرحها لا تعترض على أهمية الجودة والتقويم والاعتماد، بقدر ما تبحث عن الجدوى والأثر والمنتج النهائي من كل ما نقوم به في هذا المجال. الأسبوع الماضي - من حسن حظي - وجدت الدعم للفكرة في محاضرة معالي وزير الصحة ورئيس مجلس إدارة أرامكو المهندس خالد الفالح..
«في سبعينيات القرن الميلاديِّ الماضي، فقدت السيارات الأمريكية البريقَ الذي تميزت به، فيما تفوّق صناعُ السيارات اليابانية، التي كان يُنظر إليها على أنها من الدرجة الثانية والثالثة. والمفارقة أن اليابانيين أخذوا روح الجودة التي وضعها روّادٌ أمريكيون ولم ينقلوا عنهم معايير صناعة السيارات الأمريكية تحديدًا. وكان ومن أبرز هؤلاء الروّاد ويليام ديمنق.. دعته نقابة علماء ومهندسي اليابان ليقدم دورةً في مؤتمر عن الجودة.. وخلال سنوات تحقق ما يشبه المعجزة الصناعية في اليابان. ونجحت اليابان في السبعينيات بتنافسية منتجاتها لتكتسح الأسواق العالمية، وغيرت الصورة الذهنية النمطية السلبية. واليابان هي اليوم مقرٌّ لأهم جائزة في العالم في مجال الجودة، «جائزة ديمنق».
ولكن ما الذي صنع الفرق بين شركات السيارات الأمريكية ونظيراتها اليابانية؟ الشركات الأمريكية هي التي أسست معايير الجودة، ولكنها عندما توقفت عن السعي نحو تحقيق التميُّز ضعفت البيئة الراعية للجودة، حيث اكتفت بتطبيق المعايير وتراجعت الجودة. وبالمقابل، أسهم سعي اليابانيين نحو التميُّز في إجراء تحسينات مستمرة، وأصبحت عبارة «صنع في اليابان» مرادفةً للتميُّز في كلِّ شيء.
ومن الطريف أنه في مطلع الثمانينيات، بعد تعرضها لخسائر ببلايين الدولارات، دعت شركة فورد الأمريكية الدكتور ديمنق كي تستفيد من إرشاداته في الجودة. عندها فاجأ ديمنق إدارة شركة فورد بأنه لم يتحدث عن جودة التصنيع أو الالتزام بالمعايير بل تحدث عن نوعية الإدارة في شركة فورد وعن ثقافة العمل السائدة وعن الطريقة التي يعمل بها مديروها. وقد أخبرهم أن قراراتهم تشكل ما نسبته 85 في المئة من سببِ فشل الشركة في تطوير سيارات أفضل.»
انتهى الاقتباس من محاضرة معالي المهندس الفالح ونصها متوافر على موقع وزارة الصحة، وهذا هو المأزق الذي نعيشه؛ ليس في معايير الجودة وتأسيس الهيئات الحارسة لها، بل في عدم القدرة للانتقال من المفهوم الضيق للجودة المتعلق بالمعايير والتنظير إلى التطبيق والتميز الذي يقود لإحداث أثر إيجابي في المنتج والمخرجات. نفس الخطأ الذي ارتكبه رواد الصناعة الأمريكية قبل عقود، نكرره في بلادنا بطريقة ما أو بأخرى. أخذنا بالمفهوم الضيق للجودة ولم نتعلم من مسيرة الآخرين، فأصبحنا نعيد نفس الأخطاء، ونحصل على نفس النتائج السلبية مرةً تلو الأخرى.
من منا لا يحرص على الجودة؟ وهل ننكر أن كثيرا من دول العالم لديها مؤسسات لضبط جودة التعليم؟
هذا ليس منطق جدال، بل أكرر بأن المطلوب هو لمس أثر ذلك في المنتج، وإلا فإنه يصبح هدرا وعبثا بيروقراطيا. وفق مرئياتي وأجزم بأن الكثيرين يوافقونني الرأي أن تعليمنا العام والعالي تراجع كثيراً في نوعية مخرجاته، بالرغم من وجود مؤسسات الجودة المزعومة. طبعاً نحن لا نقيس المنتج بطريقة علمية، فلا تطالبوني بمراجع في هذا الشأن!
مع هيئات الاعتماد والجودة والتقويم، تحولنا إلى قياس والاحتفاء بالإجراءات والمعايير لأن الهدف النهائي غير واضح، وبالتالي لم نستطع قياسه. ومع هيئات الجودة والاعتماد والتقويم التعليمية، وكما أشار معالي المهندس الفالح، نحن نلف وندور حول المعايير ولسنا بقادرين للوصول لمرحلة التميز.