د. محمد عبدالله الخازم
قضية فوز تونس أو مجموعات الحوار التونسية بجائزة نوبل للسلام، يعتبر خبراً مبهجاً جاء في وقته المناسب لتسليط الضوء على التجربة التونسية، والبحث في مسببات نجاح ثورتها، مقارنة بثورات العرب الأخرى. ولتلفت انتباه العالم والعرب منهم تحديداً إلى دراسة التجربة التونسية بتمعن والتعلم منها. ونجاح الحوار الوطني التونسي، لا يمكن اعتباره أمرا طارئاً، بل يؤخذ كامتداد لبناء مستمر خلق عقلية وآلية فكرية تونسية قابلة للحوار والتفاهم.
شئنا أم أبينا؛ أول خطوة لنجاح الدول الحديثة - تونس، ماليزيا، تركيا، وغيرها- هو التطبيقات الديموقراطية في نظام الحكم والممارسة القانونية والسياسية والوطنية بصفة عامة. الديموقراطية ليس بصورها المشوهة، بل تلك التي تساوي الحقوق والواجبات بين المواطنين وتتيح حرية المشاركة والاختيار وتستند إلى نصوص قانونية واضحة في تعاملاتها وليس إلى مبادئ ثيولوجية ماضوية. تونس وعبر حكومة كان يصفها البعض بالدكتاتورية أسست لمنظومة مؤسسات وطنية واستخدمت آليات ديموقراطية بارزة في تعاملاتها. لم تتراخ الحكومات السابقة لها أمام ضغوطات المؤدلجين وتتحول إلى دولة دينية. حتى تجربتها الاشتراكية أو القومية تجاوزتها وعادت لتصحيح وضعها بعد أن انحرفت باتجاهها فترة من الزمن.
تونس تجاوزت مجرد رفع شعارات الديموقراطية والثورية والجمهورية كما فعلت وتفعل كثير من الدول العربية، بل اتجهت نحو بناء المؤسسات السياسية وفق أسس دستورية، بغض النظر عن تسميتها الأحزاب أو الجمعيات أو الاتحادات. تلك المؤسسات الناضجة -مقارنة بالآخرين من دول الجوار- كانت الضمان لإنقاذ ثورة تونس من الضياع والحروب الأهلية والأيدلوجية. تلك المؤسسات وبقياداتها المنتخبة والممثلة للشعب بمختلف أطيافه، استطاعت الجلوس إلى طاولة الحوار والنقاش حول مستقبل البلاد وكيفية الخروج من الأزمات. واستطاعت احتواء حرب الشارع، صراع العصي والهراوي بين المختلفين.
إضافة إلى الجانب السياسي والدستوري يمكن النظر للتجربة التونسية في مجال التنمية بصفة عامة والتنمية البشرية على وجه الخصوص. تونس وربما بسبب طبيعة مواردها وازنت بين تنميتها الريفية والمدنية وانفتحت على الثقافات الأوربية من خلال برامج السياحة واعتمدت على أبنائها في سد وظائفها المهنية المختلفة من سائق التاكسي حتى أستاذ الجامعة. لم يكن تعليمها مجرد شهادات، بل تعليم يحقق الاحتياجات الوطنية وأهمها احتياجات العمل المختلفة. على سبيل المقارنة، ظل جيرانها رغم غنى مواردهم زوارا منبهرين ومستفيدين من خدماتها السياحية والصحية وغيرها وحينما قلدوها بالثورة تحولت بلادهم إلى غابة فوضى.
ما أود أن أصل إليه في هذا التحليل هو القول أن تجربة الحوار التونسي لم تأت من فراغ بل هي نتيجة وعي تراكمي وعمل مؤسساتي امتد لعقود. هذا العمل تبنته الحكومات التونسية السابقة وبغض النظر عن معارضته فقد أتى أكله. وحتى لا يكون القول مناقضاً لماحدث، بمعنى أنه لو كانت الحكومات التونسية السابقة مثالية و ناجحة، فلماذا حدثت الثورة ولماذا انقلب التونسيين على حكومتهم السابقة؟ هذا سؤال منطقي ونؤكد على ضوئه أننا نتحدث عن تجربة ضمن سياق ما يحدث في الدول العربية وبعضها يسير للوراء وليس للأمام، تجربة لم تكتمل مثاليتها لكنها بدأت وحينما ثار شعب تونس على انحرافها لم يثر في فراغ مؤسساتي وثقافي وفكري وإنما وجد أن مؤسساته الديموقراطية وثقافة قادته ومفكريه وبناءه المؤسسي ووعيه الشعبي المنضوي تحت مظلة المؤسسات الدستورية يمثل الضمان الذي يأخذ ثورته إلى بر الأمان.
استحق قادة المؤسسات التونسية الرائدة جائزة نوبل، على التزامهم بالقيم الديموقراطية والفكرية التي تأسست في بلادهم على مدى عقود. لم يكن هناك مجال لأن يعودوا للقبلية والجهوية والنزاعات الأيدلوجية. اتفقوا على أن الوطن أولاً وقيم الحوار والديموقراطية الذي يحترم كافة التوجهات والثقافات هو الأساس الذي يجب السير عليه، رغم كل الضغوطات والتأثيرات من الداخل والخارج نحو إفشال ذلك الحوار. تهنئة وتحية للشعب التونسي بهذا التقدير العالمي المتمثل في جائزة السلام.