د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
عندما أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز قراراً لافتاً بإنشاء هيئة حكومية مستقلة لتوليد الوظائف ومكافحة البطالة؛كانت حكمته حفظه الله تعي ذلك التحدي الكبير الذي يقف أمام طموحات الشباب، وليس ذلك فحسب ؛ إنما يمتد إلى إعاقة النهوض التنموي برمته، فالبطالة كانت ومازالت مزمنة الحضور، ومطاردة فرص العمل أسفرت عن أحلام نائية بين من يكابد ومن يلاحق سراب تلك الوظائف، وربما صار ذلك اللهاث هشيما تذروه الرياح. والمطلع على القرار بتفاصيله وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية يجزم أن قيادتنا الرشيدة أدركت
كما هو شأنها أن الاعتماد على الأنظمة الحالية لاستجلاب الفرص الوظيفية كما هي في رحلاتها الطويلة المنهكة فوق الرمال لن يجني المواطن منها سوى الذاكرة المعتمة التي امتطت التسويف، وربما كانت في بعض حلولها تسطيحا للواقع؛ ومعالجة للنتائج وترك الأسباب كمن يُطفئ الحرائق دون الالتفات إلى مصادر النيران. ومع ما سوف يُقرّ في مهام الهيئة الوليدة، والتدابير التي ستكون حتما تحولا كبيرا في خارطة الطريق نحو الوصول إلى سوق العمل الوطني المعتدل من خلال اعتماد استراتيجية واضحة ومرنة بإذن الله تكون ولودا لقرارات مختلفة؛ ودودا بالمواطن لتصنع له فرصا مختلفة العدد والعُدَّة ؛ فكما نعلم قد يُحيط واقع الوظيفة انحسار مبدأ الاستحقاق حين تلتصق الوظيفة أو يُلصق بها من هم دون متطلباتها لقصور المعرفة، وضعف التأهيل، أو للفجوة بين واقع الوظيفة ومتطلباتها الأساس، وعند ذاك فإن الوظيفة سوف تحترق تحت الشمس،وهنا يصبح الفقد التنموي كبيرا جدا، ومن البوابات التي تفضي بالهيئة القادمة إلى دوائر مهامها الحقيقية صياغة استراتيجية عظمى لتحسين الواقع الوظيفي من خلال حتمية مراقبة واقع التخطيط الوظيفي في كل قطاعات الدولة لأن بطالة الموظفين المتمثّلة في نقص المهارات وضعف المعرفة المكتنزة وإهمال شغف التحصيل الجديد في المجال ذاته؛ يؤدي إلى تسرب الموظفين نتيجة للمنافسة المحيطة، وقد تتسرب الوظيفة والموظف في مكانه وذلك في سوق العمل الحكومي المحكوم بالبقاء الأبدي؛ فيصبح ذلك الموظف خطرا على المؤسسة التي يعمل بها؛ والاصلاح حينئذ يطمس في سراديب المجهول، وأردف وإن أكثرتُ على الهيئة الموقرة التي أجزم بنفضها أضابير القوم أنه لابد من أن تكون سياسات التدريب والتخطيط له في كافة قطاعات الدولة متوافقة مع الأثر والنتيجة المطلوبة للموظف أولا وللتنمية الوطنية في ذات الوقت، وأن لا يكون التدريب قافزا لانكشافه أمام الرأي العام على تجويد قنوات المعرفة فالمطّلع على سياسات العمل وآليات الاستقطاب يرى قفزا صريحا فوق أسوار المعرفة إلى مصانع التدريب والتأهيل.
لمن لا يملكون المعرفة في المجال معرفة كافية؛؛ قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، والعمل عماد والمعرفة أوتاده «ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ»؛ فاقتصاد المعرفة الذي تنشده البلاد ليس مقومه الأول التأهيل والتدريب بل ارتشاف العلوم والمعارف حتى الثمالة ثم هندستها تطبيقا والتدريب عليها واقعا في أعلى المستويات لضمان القدرة على ممارستها ومن ثم صبها في قوالب الأعمال لتكون المقاييس ملائمة ومقنعة وقادرة على حمل الموظفين للمنافسة والابداع؛ وحتما فإن رفع الكفاية المعرفية يؤدي إلى رفع الكفاءة المهنية؛ وأهمسُ في واقع تدريب طلبة المدارس اليوم على بعض المهن وهم على مقاعد الدراسة خارج مسارات ومواقع التطبيق على المحتوى المعرفي في المقررات التدريسية،فتلك حوافز غير منتهية باستيلاد وظائف حقيقية لهم ؛ وحصيلتهم منها حتما ليست مجزية؛ إلا أن يكون ذلك صناعة توجه؟!!.
وربما جاز لنا القول إن هيئة توليد الوظائف، ومكافحة البطالة ليست قرارا ساميا فحسب إنما هي قانون حكومي جديد، يحتضن شئون العمل وشجونه ويجمع شتات جهود القطاعات المختلفة في شأن العمل،ويعدل مساراتها، وينافح عن إنتاجية الموظف السعودي إن علت وإن قلت دعما وتصحيحا، فالفرق بين الموظف المنتج وغيره كالفرق بين الاتجاه والغاية والتأثر والتأثير، كما أن الهيئة سوف تواجه واقعا يحكمه السلوك الاجتماعي، وغياب القناعة بجودة المنتج الوطني من الأيادي الوطنية؟!! ومخرجات التعليم التي مازلنا في شوق إليها!! إضافة إلى التقارير اللامعة والاحصائيات الباهتة التي تردف تلك التقارير؛ و لذلك فإن قطاع العمل الحكومي والخاص يحتاج إلى إطلالة مبصرة من الهيئة الوليدة لإعادة صياغة البدايات لكي تتلاءم مع ما أحاط واقع العمل، وما ابتلي به منذ الأزل مما يستساغ طعمه في الأفواه فإذا ما استقر في الجوف لفظه الواقع و الطبع؛ آخرها ذلك الحافز الذي حفّزوه ولكنه لم يصنع حلة مرضية، ونحن نعلم أن الاتجاه العام يُلقي باللوم على قطاعات العمل لأنها لم تكن حضنا لمواطنيها، ولكن الحديث عن مسئولية إعداد أولئك المواطنين ليكونوا قادرين على الولوج إلى دوائر العمل طاشت من حولها السهام إلى أن عسُرت واستحالت على القناص؛ وتأسيسا على ذلك فإن من الأولويات قبل صناعة الفرص الوظيفية المؤمل عليها من الهيئة إعداد أدوات معامل التوليد في الهيئة الجديدة؛ فمن اللافت أن أدوات الصناعة في ثوبها الحالي محشوة بالفراغات إلا من النطاقات والباقات والسباقات، فأمام الهيئة نقاط استفهام كثيرة، ونقاط تعجب أكبر يعلمها صاغة العمل، وحرّاس فضيلته من الأولين والآخرين، ومما هو حري ً بالوقوف عنده إعادة النظر في تصنيف الوظائف الحالية وفق واقع اليوم ومتطلباته والاتكاء في ذلك على محددات دقيقة زمامها «أعط القوس باريها».
وسوف ينتج عن تصنيف واقع الوظائف الحالية استيلاد فرص وظيفية جديدة خاصة في القطاع الحكومي وفق سلالم وظيفية تلزم الموظف بنمو معرفي ومهني مضاعف وهو في دوائر العمل كما يحقق تصنيف الوظائف استحداث مسميات وظيفية جديدة معتمدة مثل وظائف المخترعين والخبراء ومستشاري الأعمال ومثلهم لمستويات من الفكر الداعم لمجالات العمل المختلفة؛ ومن البوابات الداعمة لنجاح الهيئة دعم الاصلاح الاداري في قطاعات العمل المختلفة.
واستثمار التباين في البيئات والمتطلبات المجتمعية وكذلك الاختلاف في التركيبة السكانية بين المناطق والمحافظات لإحداث التنافسية المطلوبة في شغل الوظائف بما يحقق الاستقرار والانتاجية العالية، ولعل الهيئة الموقرة تلتفت إلى القطاعات ذات المستويات العليا من التشغيل والثبات الاقتصادي لاستثمار ذلك في صناعة فرص وظيفية حافزة.والآمال نرقبها أن تشرق هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة بتجديد بكر وتحديث معتّق بإذن الله.