د.محمد الشويعر
في المثل العربي: كلُّ فتاة بأبيها معجبة، ويقولون: الولد صنو أبيه، فهل هذه المثالية لها مقياس توزن به، وما حدود هذا المقياس؟..
أهي كالعنقاء التي تُذكر ولا تُعرف، والغول الذي يأتي على ألسنة الشعراء؟.. ويقولون: تغوّلت الفيلان، في وصف الليلة المظلمة وترائي الأشباح فيها.
وقد تكون المثالية لها مفهوم مبني بالبروز والكمال في وجهة معينة، أو مفهوم عند فئة دون أخرى، فتكون بهذا المفهوم: أمر نسبي وفق مفهوم وقناعة كل فئة ومجتمع.
وكلّ من هؤلاء وأولئك ينتقد الآخر، في العادات والخصوصيات ويرى عمله الأحْسن والأمثل.
ولذا فإنَّ المتمعّن يرى رجالاً ومن يسمّونهم رجال الدين في مختلف العقائد بالأرض، لهم نظرات حول بعض العادات الاجتماعية، والمسائل الفردية والأسرية، والمقاييس حول بعض التصرفات، هي في نظرهم مثاليات لكنها في الفكر الإسلامي، وفي الشموليات تصرفات سيئة، وهذه أمور يجب الابتعاد عنها في التربية والتوجيه، والتعليم والفكر، والعادات والتقاليد.
وقد كان في المجتمع الجاهليّ عادات وأعمال حسنة، أبقى عليها الإسلام منها مكارم الأخلاق، لأنّ الله يحب مكارم الأخلاق، وأيّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثيراً من الأعمال التي تعين على تآخي المجتمع، وتؤصّل المحبّة وتنشّط جذورها، فكان لا يغضب، إلا عندما تُنتهك محارم الله، وكان كريماً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر، كما كان بشوشاً في وجه السائل، حتى ترتاح نفسه ويأخذ عنه، وكان متواضعاً حتى أنّ الطفل الصّغير يأخذ بيده فينقاد معه.. وكانت أخلاقه من أدب الله الذي أدّبه، فأحسن تأديبه، فهو مثالي في جميع أموره، نموذج لأصحابه في كل موقف.
بعثه الله ليتمّم مكارم الأخلاق، نموذج ذلك لما أُسرت سفانة بنت حاتم، وهروب أخيها للشام، وكانت في مكان قريب من المسجد فيمر بها يدعوها، فتقول: إنْ تقتل تقتل بذنب، وإنْ تعف تعف بكرم، أنا بنت حاتم، وأبي يكرم الضيف، ويقرئ المسافر، ويحب مكارم الأخلاق، وفي اليوم الثالث: قال: خلوا عنها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق، والله يحب المكارم، ولو كان أبوك مؤمناً لترحّمنا عليه.
وأمر أصحابها أن يلحقوها بأخيها، مع قافلة مسافرة للشام، فلما لاقت أخاها، وأثنت على موقف رسول الله معها، ورغبت أخاها في الإسلام، التي فتح صدرها بمثالية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، فرجعت للمدينة مع أخيها وأسلما.. وقصة إسلامها ذكرها ابن كثير في تاريخه، لراغب الفائدة لأنها طويلة.
فأعطتْ صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعامله مع الآخرين، مفهوماً واضحاً لمن يرغب معرفة المثالية: بأنّها الحرص في التّأسِّي، بأكمل الصّفات وأزكاها، وأنفعها للآخرين وأكثرها أثراً، ولهذا نرى المسلم الحريص في التّأسِّي برسول الله صلى الله عليه وسلم: في مثاليته: قولاً وعملاً، يترسّم خطاه نصّاً وعملاً، حيث أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، يقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يوسف: 108)، ويقول سبحانه: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159).
وهذه النصوص وغيرها كاملة الدلالة عميقة المعنى.. ومن حُسن الاتّباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثاليّته، ترسّم خطاه، والتّأسِّي بأخلاقه وأعماله، بقدر الإمكان مع النيّة الصادقة وإحياء سنّته في القول والعمل.
ومن الغرائز في البشر، التّطلُّع إلى البروز في كلّ فنّ، والإشارة إليه كمثل اجتماعي، ترنو لمثله النفوس، ويشار إليه بالبنان، وتهفو لسماع أخباره في المجتمعات، بأنّه رمز اجتماعي وهذا مركب نقصٍ في فئة من الناس، إذ يحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، إذْ يتصوّرون أنّ البروز بما يخالف معهود النّاس، إذ يُرْوَى في بعض الجهات عن فئة من بنى آدم يرون المكانة والشّهرة في مخالفة المعهود: سواء بالطّبع، أو اللّبس أو في بعض المقتنيات المتنوّعة، مستندين على عبارة تتردّد على الألسنة وهي: «افْعَلْ المنكر حتى تذكر».
بينما الذي يرفع المكانة: التواضع وحُسْنُ الخلق، والسّعي في مصالح النّاس والتّودّد إليهم، بالأفعال الحميدة، وبذل الجهد، في إغاثة الضّعيف، ومساعدة المحتاج، والسؤال عنهم.
هذه بعض الصفات، التي يجب الاهتمام بها، لتوجد المثالية في العمل، وأداء زكاة العمر، والجاه والصّحة والقدرة، لأنّه في عون الله ما دام في عون أخيه .
فالأعمال النّافعة مهما كان نوعها وعملها، إذا كانت بنيّة خالصة، استدام نفعها وصارت مثالية، تؤخذ قدوة حسنة، ومبدأ تعاليم الإسلام: بأنّ مَنْ سنّ فيه سنّة حسنة فإنّ له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة كما جاء في الحثّ عليها، بعكس من سنّ سنّة سيئة، حيث يتحمل وزرها ووزر من عمل بها.
والمثالية في المجتمعات الإسلامية يتعدّى نَفْعها ويكبر حجمها كثيرة لمن يرغب في عمل الخير، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاعدة راسخة حتى لا يزهد الفرد في الشيء القليل، في مثل هذا حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بقوله الكريم: ((لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق)).
يقول جلّ وعلا في درس عمليّ، في تعامل النّاس فيما بينهم وحسن اللين والعشرة، بتوجيه في سورة الحجرات، في تهذيب للنفوس المؤمنة، ودعوة للمثاليّة التي يحبها الله لكي تنتشر في المجتمع الإسلامي، آداباً تميّزهم عن غيرهم، في خطاب للفئة المؤمنة: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات 9-12).
إنّ هذه التوجيهات الربانية، قانون في المثالية الاجتماعية، والتعامل الذي يوحد القلوب، ليحصل التآلف والامتزاج والمحبة، حيث طبقها المجتمع الأول، فتصافوا وتآخوا، حتى بلغ بهم إلى أن يتنازل الفرد لأخيه عن ماله، وإحدى زوجاته، امتثالاً لأمر الله وطاعة لرسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.