د. حمزة السالم
الصراع الأزلي بين الغني والفقير ومنه النزاع بين المُقرضين والمقترضين، قديم بقدم وجود السوق والنقود. وفي الثورات الجائعة، ينصب جام غضب الثوار الجائعين المثقلين بالديون على المرابين والأغنياء. ولا تكاد تخلو مدينة أوربية شهيرة من شارع خاص باليهود، الذين غالبا ما يكونون في فترة ما، طحين ذاك الغضب. ومن شواهد ذلك قتل الثوار الفرنسيون للديانة (المقرضين) والأغنياء في الثورة الفرنسية. وغالبا ما ترفع الثورات والانقلابات شعارات ضد الاستغلاليين وعلى رأسهم المقرضين. ولكن الملاحظ تاريخياً أنه ما أن تستقر الأمور، إلا ويصبح قادة الثورات والانقلابات أكثر الناس حماية وعناية بالأغنياء والمقرضين وأشد عقابا على المتخلفين والمتعثرين من المقترضين.
فالحكومات عموما، سواء على المستوى الفردي أو اللجان أو المجالس، تجنح للميل مع أصحاب الثروات، لدوافع محسوسة تدركها الحكومة أو اللجنة أو المسئول، ولدوافع غير مدركة وغير محسوسة بل ولا يعترف بها. وهذه دوافع موجودة في البشر جميعهم، ولكنها تتمثل وتظهر بقوة عند الحكومة الغالبة على السلطة وذلك بسبب غياب الرادع المتمثل في إسقاط السلطة بالانتخابات.
فمن أهم الدوافع، الغير محسوسة، التي تدفع الحكومات للميل مع أصحاب الثروات هي الدوافع النفسية. فأفراد السلطة الحكومية عدد محدود في أفراد قلة، وكذلك هو حال أصحاب الثروات. وكلاهما يملك قوة بنفسه لا بغيره. فيتناغم بعضهم مع بعض في الحفلات والاجتماعات. فيسمع السياسي بقوة صوت صاحب الثروة ويؤثر فيه. وعلى المستوى الفردي، فهناك أيضا المصالح الشخصية والمصالح المالية للمسئول الحكومي.
فتعامل الحكومات قديما وحديثا، مع الدين والدائن والمدين، ومع الغني والفقير، دائما بما يخدم مصالحها، وهذه هي الفطرة الإنسانية. فإن كانت المصالح هي صوت الناخبين، بذلت الحكومة أقصى جهدها لحماية المقترض الذي يشكل غالبية المجتمع، إلى حد لا يضر الاقتصاد فينقلب الناخبين على الحكومات. وأما إن كانت الحكومة غير ديمقراطية، فستحرص بأفرادها ومسئوليها، على مصالح المُقرض وصاحب الثروة الذي يشكل القلة القليلة في المجتمع، وبالتالي لا تتوجه أموال المودعين لأفضل الاستثمارات مما يكون هذا عاملا من عوامل ضعف اقتصاديات الدول الغير ديمقراطية.
والثورات على الحكومات أمر حتمي الحدوث ومُطرد في كل الأنظمة والأيديولوجيات. وهو كذلك في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، ولكن مع تعديل لشكل الثورة الشعبية. وذلك لأن المقترضين ومعدومي الثروة هم الغالبية العظمى من الشعب، وهم الذين يستطيعون الإطاحة بالحكومات وتحديد الرئيس المنتخب والتجديد له.
ولذا تجد الأنظمة الديمقراطية في جانب المقترض إلى أقصى حد بحيث لا يخل بالنظام الاقتصادي المالي المحلي. فبسبب الديمقراطية، أصبح رفض منح قرض بدون سبب واضح جريمة يُحاكم عليها البنك، فالبنك راعي في أموال المدخرين من المجتمع. ولهذا أصبح حماية المُفلس قانونا، في النظام الديمقراطي. فتحول الدين أو التعثر أو عدم السداد إلى حق إنساني، بعد أن كان عارا يُعاب به صاحبه. فأدى هذا إلى توجه أموال المجتمع إلى الأكفأ والأعلى إنتاجا، فازدهر المجتمع كله بذلك. فالمقرضون سيحرصون إلى إقراض أصحاب أفضل المشروعات، وأكثرها إنتاجية لضمان مقدرتهم على إرجاع حقوقهم.
ولهذا لا تجد حماية للمقترض كحماية الدول الديمقراطية المتحضرة. فالحكومة هي المسؤولة في حماية المواطن من استغلال الدائنين. فهي المفترض فيها إن كانت منتخبة، أن يكون لديها العلم والخبرة, والمفترض أن تكون هي موضع الثقة. فهي من تعمل للمصلحة العامة, وهي المسؤولة عن منع استغلال القوي للضعيف - والجاهل ضعيف.