د.عبدالله مناع
ربما لم يعد أحد يذكر اسمه أو لقبه.. ولا من هو أصلاً هذا (الجلبي)؟! الذي مات يوم الثلاثاء الماضي في أحد أحياء العاصمة العراقية (بغداد) عن واحد وسبعين عاماً.. إثر نوبة قلبية، أودت به وبحياته.. لولا (الخبر) الذي بثته وكالة الأنباء الفرنسية لـ(صحف) وإذاعات العالم وتلفزيونياته وقضائياته، فأغفلته معظمها.. على ما يبدو!! ومن اعتنت
به.. فقد وضعته في صفحاتها الداخلية، وفي آخر نشراتها الإذاعية والتلفزيونية.. التزاماً بـ(مهنيتها) الإعلامية في أن من حق قارئها أو مستمعها أو مشاهدها: أن يعلم بـ(ما حدث).. حتى ولو كان -هذا الذي حدث- هو موت (خائن) من خونة العرب.. وما أكثرهم بكل حزن ومرارة وأسف.. هذه الأيام!
لقد أحسنت الوكالة (الفرنسية).. عندما عنونت خبر وفاته.. بقولها: (وفاة أحمد الجلبي.. مهندس اجتياح العراق)!! وكأنها تذكر بموقف فرنسا العظيم من (الاجتياح) الأمريكي للعراق الذي لا ينسى
-وهذا من حقها- عندما كانت تقف عبر وزير خارجيتها: الأديب والشاعر والدبلوماسي البارع (دومينك دوفيلبان) في قاعة مجلس الأمن.. وهو ينافح وزير خارجية الولايات المتحدة (الجنرال كولن باول)..!! وعلى الهواء مباشرة.. نافياً امتلاك العراق لـ(أسلحة دمار شامل) يهدد بها جيرانه!! والعالم بأسره كما كانت تدعي الولايات المتحدة، التي تريد أن تجعل منها (ذريعة) شرعية لغزو العراق والاستيلاء عليه... استناداً للشهادات التي كان قد أدلى بها رئيس بعثة المراقبين الدوليين للتفتيش عن أسلحة العراق والعثور على أسلحة الدمار الشامل هذه.. التي لم يجد منها شيئاً، وربما لتذكيرنا -نحن العرب- في ذات الوقت بأحد أبرز رموز الخيانة العراقية، الذي باع نفسه ووطنه وأهله من أجل أن يُسقط (صدام) ويحل محله، هو وحزبه (المؤتمر الوطني العراقي).. لينال حقه من البصق عليه، وعلى تاريخه الأسود المجلل بالخزي والعار..!
* * *
لقد كان لهذا (الخائن) قصة طويلة.. بدأت مع رحيله عن العراق في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.. إلى بريطانيا للدراسة، حيث حصل بعد قرابة عقدين من الزمن على درجه (الدكتوراه) في الرياضيات.. آثر معها البقاء بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن صدام حسين.. كان خلالها قد وصل إلى حكم (العراق) بعد أن تنازل له خاله (الرئيس أحمد حسن البكر)، وأصبح ديكتاتوره القوي المستبد، ليعود (الجلبي) مع بدايات التسعينيات إلى العراق.. ويشكل مع المعارضة العراقية، التي تزايدت مع الحرب الإيرانية الطويلة وأزمة احتلال الكويت، والحصار الذي فرض بعده على العراق.. حزبه: (حزب المؤتمر الوطني العراقي)، الذي قاد في منتصف التسعينيات انتفاضة كردية.. تطالب بـ(الاستقلال) أو الحكم الذاتي لـ(كردستان) العراق.. إلا أن الانتفاضة فشلت، وسقط فيها آلاف القتلى العراقيين من الجانبيين.. ليفر (الجلبي) عائداً إلى الولايات المتحدة، ويصبح زعيماً عراقياً يُعوّل عليه من وجهة النظر الأمريكية -خاصة أنه يحمل تلك الثقافة الأنجلوسكسونية المطلوبة والمطمئنة- عندما تأتي لحظة الغزو الأمريكي للعراق، التي جاءت في السابع عشر من شهر مارس من عام 2003م.. ليكون (أحمد الجلبي) بين ركاب أول طائرات الغزو الأمريكية للعراق، إلا أنه لم يتحقق له (حلم) حكم العراق.. لا قبل إعدام صدام حسين ولا بعده، بعد أن اكتشفت الولايات المتحدة خلال عام احتلالها الأول لـ(العراق).. وقد تغلغلت فيه تغلغل الخلايا السرطانية.. كذب (الجلبي) عليها في كل ما كان يخبرها به من معلومات، وفي مقدمتها معلومة (أسلحة الدمار الشامل) التي كان يخبئها (صدام).. إذ لم تجد عبر جنودها وقادتها العسكريين الذين فحصوا.. حتى بيوت المسؤولين العراقيين وغرف نومهم.. أثراً لها!! يضاف إلى ذلك.. أنه كان يبلغ (إيران) (العدوة) الأولى لها في المنطقة، والمناهضة لكل ما هو أمريكي آنذاك.. بذات المعلومات، وهو ما أسقط ورقته وإلى الأبد في أعين الإدارة الأمريكية.. ليحل محله في حكم العراق -بعد الغزو- دبلوماسيون أمريكيون من الدرجة الثانية.. وعسكريون من الدرجة الثالثة..؟!
إن الأمانة التاريخية تقتضيني بأن أشير إلى أن الولايات المتحدة التي جاءت بـ(بوش الابن) -رغم عتهه- الذي كانت تعرفه أسرة (آل بوش) وكل المحيطين بها إلى البيت الأبيض.. لإنفاذ أجندة (حلم) قيام الإمبراطورية الأمريكية -بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م- بالاستيلاء على مصادر القوة في العالم.. وأولها (النفط)، استشارت في الساعات والأيام الأخيرة، وقبل الإقرار النهائي والأخير أو (ساعة الصفر): بـ(الإقدام) على غزو العراق من عدمه.. مستشاراً عراقي الأصل أمريكي الجنسية: هو الدكتور كنعان الأستاذ في عدد من الجامعات الأمريكية، فأفتاها.. بسرعة الغزو وألا خوف منه، أو على الجنود الأمريكيين، أو من ردة الفعل العالمية ضده، وأن الشعب العراقي بكل طوائفه.. ينتظر طلائع الغزو وهو يحمل الورود والزهور والياسمين ترحيباً بجيش (الخلاص) الأمريكي من (صدام) وأعوانه!! إلا أنهم لم يجدوا ذلك.. بل وجدوا رصاصاً وقتالاً شرساً في الفلوجة والناصرة وضواحي بغداد في استقبالهم، ذهب ضحيته خمسة آلاف وأربعمائة شاب من جنود الولايات المتحدة الأمريكية.
* * *
إن موت (الجلبي) أو (أبو رغال) العراقي.. غير المأسوف عليه، وتشييعه إلى مذبلة التاريخ.. لا بد وأن يحرك طاقات المحامين العراقيين وهممهم ونقابتهم.. لـ(المطالبة) بحق العراق والعراقيين في (تعويضات) منصفة، تقوم بسدادها الولايات المتحدة الأمريكية.. جراء جريمة غزوها للعراق، واستيلائها على نفطه، وتقتيلها لشعبه، وتشريدها لأطفاله وتدميرها لمدنه، ونهبها لموجودات متحفه الوطني الآشوري العربي الإسلامي الفريدة التي لا تقدر بثمن، فالذي فعلته الولايات المتحدة بـ(غزوها) العراق واحتلاله لتسع سنوات متواصلة من الذل والهوان والانتهاكات.. كان بحق يمثل أكبر جرائم القرنين -العشرين والواحد والعشرين- مجتمعة، وهو يتجاوز جريمتيها النوويتين في مدينتي (هيروشيما) و(نجازاكي) اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية
-1945م-، اللتين أضرتا بمدينتين وشعبهما.. بينما كانت أضرار غزو العراق واحتلاله أوسع وأشمل وأعمق، فقد أضرت بشعب بكامله وأرض بكاملها، ومدن بكاملها. لقد كانت (هولوكوستاً) أمريكياً مجنوناً، يتواضع أمامه (هولوكوست) النازيين.. وهو ما يعطي الحق للمحامين العراقيين ونقابتهم في المطالبة بتلك التعويضات.. التي لا تسقط -قانونياً ولا دولياً- بـ(التقادم)، ولن يعدم العراقيون.. حتى وهم وسط هذا الاحتراب والتفجيرات والفوضى وجود محام أو عشرة أو مائة أو ألف.. أو أكثر.. من طراز مراسل قناة البغدادية التلفزيوني الوطني العربي: (منتظر الزايدي).. الذي لم يجد خيراً من الرد على (جورج بوش الابن).. ووقاحته في إلقاء خطاب وداعي للعراقيين في (بغداد) قبيل مغادرته البيت الأبيض بأيام وتسليمه لـ(أوباما).. من أن يقذفه بـ(فردتي) حذائه على التوالي ورئيس الوزراء العراقي (الشخشيخة) نور المالكي إلى جواره على المنصة: تقديراً لجهوده في جلب (ديمقراطية) الخراب والتقسيم!! و(حرية) الفوضى والفساد.. لـ(العراق)!! ليكون (الزايدي).. هو المعادل الوطني العراقي الشريف.. أمام خيانات الجلبي والكنعان.. وأمثالهما ممن مهدوا لـ(الغزو) الأمريكي وكانوا طلائعه..!! ليستقبله الشعر والشعراء العرب في كل مكان بما هو جدير به من الحب والتقدير والإشادة.. كما قال أحدهم في قصيدة نسبت لشاعرنا وفناننا الكبير الدكتور غازي القصيبي، وهو يقول:
مت إن أردت فلن يموت إباء
مادام في وجه الظلوم حذاء
ماذا تفيدك أمة مسلوبة
أفعالها يوم الوغى آراء
لحِّن أغاني النصر في الزمن الذي
هز الخصور المائسات غناء
واصنع قرارك واترك القوم الأولى
لا تدري ما صنعت بهم هيفاء
هذا العدو أمام بيتك واقف
وبراحتيه الموت والأشلاء
فاضرب بنعلك كل وجه منافق
«فالمالكي» ونعل بوش سواء
فلا سلام عليك، ولا دعا يا (جلبي).. وانتظر ساعة حسابك!!