د. جاسر الحربش
أفكار هذا المقال ليست قابلة للتعميم على المسلمين وإنما تخص العرب فقط كهوية حضارية بذاتها مسلمين وغير مسلمين. المسلمون في باكستان والهند وأندونيسيا وتركيا وفي كل المجتمعات الإسلامية غير العربية لم تصب بنفس الآفة التي يتحدث عنها المقال.
بعد هزيمة العرب الكبرى الثانية ضد إسرائيل عام 67م (في الحقيقة لم يحارب من العرب سوى الجيش المصري فقط) انتشرت ظاهرة النقد السلبي للذات. كانت الجماهير تنتظر اللحظة الحاسمة للانتصار على الغزاة في فلسطين، يملؤهم الافتتان بتاريخ الفتوحات والمجد القديم بالإضافة إلى الاقتناع التربوي بأن العربي يجب أن ينتصر لأنه عربي. لم يكن ذلك الافتتان بالقديم والقناعة بالتفوق نابعاً من الفراغ المتخيل، بل من اعتزاز ملقن موروث بالانتماء والتاريخ الخاص، أيام كانت الحدود غير موجودة والنعرات الإقليمية في أدنى درجاتها والشعور بالمصير الواحد شبه شامل.
الذي حصل آنذاك، عام 67م أن الجيش المصري لملم بسرعة ما تبقى له من إمكانيات بعد خسارته في حرب اليمن ودخل لوحده في معركة غير متكافئة ضد جيش مسلح بالعلم والتدريب والآلة والجاسوسية المتوغلة، ضد جيش تدعمه أمريكا وأوروبا وتتعاطف معه دول المنظومة الشيوعية (ودعك من السياسات المعلنة لحكوماتها)، أما الجيوش العربية الأخرى فبقيت في الثكنات، كل حسب حساباته الخاصة.
ما حصل أيضاً وكان أكبر من الهزيمة العسكرية، هو الشعور العاطفي بالدونية واحتقار الانتماء، كتاريخ وحضارة، ومن هنا انتشرت ظاهرة التبرؤ من القديم بكامله، وخصوصاً عند شعراء المناسبات (نزار قباني، عبدالله البردوني، أحمد مطر كأمثلة فقط) والكتاب المحسوبين على ثقافة النقد الاجتماعي (العظم وطرابيشي والقمني كأمثلة). لم يكن ذلك سوى بداية التعبير عن التخلخل الانتمائي الجمعي وإعلان البراءة من ذلك التاريخ الذي كانوا قبل الهزيمة يتغنون بأمجاده ويتفاخرون بالانتساب إليه.
ما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبحت من لوازم التظاهر بالثقافة والاطلاع ظاهرة الإيغال في البحث عن الصفحات الدموية والسوداء في الحضارة العربية دون غيرها، انتقاءً وتقصداً لتبرير الانهزامية ولجذب الانتباه والإعجاب في الجلسات الخاصة والندوات والمحافل الأدبية والاجتماعية. أصبح السرد النقدي اجتراراً متكرراً لموقعة الجمل وكربلاء وعلي ومعاوية وزياد وعبيدالله وضرب الكعبة بالمنجنيق وصلب عبدالله بن الزبير وقتل الحلاج، إلى آخر المآسي الكبيرة والكثيرة، ولكن عبر تاريخ يمتد لأكثر من ألف وأربع مائة عام، بل ولما قبل ذلك من حضارات عربية، وكانت بقدر ما هي بالفعل نكبات ومآسي كثيرة، فلها ما يقابلها من الإيجابيات والمآثر الفكرية والعمرانية والتعايشية مع الأعراق الأخرى بما يفوق المآسي والنكبات بمئات المرات.
كنت في تلك السنوات الكئيبة بعد عام 67م واحداً من المفتونين بالنقد السلبي للتاريخ الذي أنتمي إليه، باعتباره خارج الانتماء الحضاري للتاريخ البشري. آنذاك كنت قريب الشبه بمن وجد على ثوبه بعض البقع الداكنة فنزع الثوب بالكامل ورماه، بدلا ً من إزالة البقع والاحتفاظ بالقماش. الحمد لله الذي هداني فيما بعد إلى الاجتهاد في قراءة ما أستطيع الوصول إليه من تواريخ الأمم والأعراق والحضارات الأخرى غير العربية وغير الإسلامية. ذلك يسمونه استقراء التاريخ المقارن، ومنه أدركت كم كنت مخطئاً ومنساقاً دون تفكير في الطابور الطويل لأدعياء الثقافة الاستهلاكية المفتونين بالبحث عن النقائص في الذات، لتبرير الاستسلام للهزيمة، وبمعنى أوضح للاستسلام لسطوة الآخرين بحجة أنهم أكثر تمدناً وإنصافاً وإنسانية.
لكن ما هو الفرق الذي عثرت عليه بعد المقارنات التاريخية؟. وجدت أن جميع الحضارات البشرية، دينية كانت أو عرقية قومية تكتنفها نفس الخلطات والمكونات السياسية من الأهداف والتصرفات والنتائج، وأن القتل المتبادل داخل مكوناتها الذاتية كلها دون استثناء كان جزءاً أساسياً ومتكرراً في سياقاتها التاريخية.
ابدأ القراءة إن أردت المقارنة من الصفر، ابدأ بالسلالات الفرعونية التي حكمت مصر، والإخمينيين والأكاسرة والساسانيين في فارس، وآشور وبابل وأكد وكلدان في العراق، والحروب الإغريقية بين الإثينيين والطرواديين، والتاريخ الرهيب للأباطرة الصينيين أو الرومان والإنجليز والإسبان، ومجازر برابرة الوسط والشمال الأوروبي حتى قبل قرون قليلة.
اقرأ بتمعن تاريخ أمريكا وإبادتها للهنود والزنوج، وأفعال الكاثوليك الإسبان والبرتغاليين بحضارة الإنكا والأزتيك في أمريكا الجنوبية والوسطى، وبشعوب الجزر المتناثرة في المحيطات، واقرأ تاريخ اليابان الدموي الداخلي قبل توحيدها، ثم تاريخها المرعب في آسيا بعد ذلك. اختتم قراءاتك بأكثر من عشرين مليون قتيل في الحرب العالمية الأولى وسبعين مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية، قتلتهم الحضارة الغربية خلال سنوات قليلة فقط، وليس خلال ألف وأربع مائة عام. ثم لا تنس أن تتذكر ما فعله ويفعله اليهود في فلسطين والفرس في العراق وسوريا، لكي تصبح مقارنة التواريخ منصفة، ثم احكم بعد ذلك.
اهدأ قليلاً وفكر وقارن. إن أصبحت منصفاً سوف تكتشف أن تاريخك الذي سلح عليه بعض أبناءه مثل طيور الحبارى الجبانة هو أنبل من كل التواريخ الأخرى بالمقارنة، مهما تخلله من الفضائع والتعديات والانتكاسات.
يقول مثل صيني قديم: الطائر الجبان فقط هو الذي يذرق في عشه. كان أجدادنا الذين صنعوا لنا التاريخ القديم صقوراً في أكثر الأزمنة والأحوال، ولا يجوز لأحفادهم التحول إلى حبارى تتخطفها الطيور الجوارح.