عروبة المنيف
يرتبط العنف والإرهاب بمشاعر الحقد والكراهية والعدائية للآخر، والاستمرار الممنهج في حقن العقول بالأفكار العدائية الرافضة للآخر تبرمج عادةً في الدماغ وتتحول إلى مشاعر تحمل معها
نيراناً مشتعلة من الكره والحقد والعدوانية ضد ذلك الآخر، وسيان سبب ذلك الحقن هل هو عقائدي أو تاريخي أو طائفي أو قبلي أو أو...، حيث تتحول تلك المشاعر تباعاً إلى سلوكيات إجرامية عنيفة تمثّلت في عصرنا الحاضر بالإرهاب والعمليات الانتحارية، ويخضع الإرهابيون بالطبع إلى تلك البرمجة الفكرية المشاعرية من قبل أطراف خبيثة تتسبل بالدين من أجل تحقيق مآرب دنيوية.
قادني الحديث عن الشحن الفكري الذي يقود إلى تأجيج مشاعر الكراهية والحقد ضد الآخر، خبر إطلاق نشطاء على الإنترنت من خلال «فيس بوك وتويتر» حملة في الجزائر بمناسبة «إحياء ذكرى اندلاع ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي»، ولقد أطلق هؤلاء الناشطون على تلك الحملة هاشتاق «أنا مانسيتش»بمعنى «أنا لم أنسى».
هدف الحملة هو إحياء ذاكرة «الجيل الجديد» للتعبير عن رفضهم نسيان ما فعلته فرنسا في حق الجزائريين فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر!
ما يثير الأسى أكثر في الخبر انضمام وجوه إعلامية عديدة داخل الجزائر وخارجها إلى الحملة من أجل تعريف جيل الشباب الجديد بميراث العذاب الذي تعرضت له الجزائر من الاستعمار الفرنسي ودفعها مليون ونصف شهيد ثمناً لحريته.
إقحام الأجيال الجديدة بتلك الأحقاد القديمة وحقنها بمشاعر الحقد والكراهية ضد شعوب أخرى ليس لها ذنب بما اقترفته أيادي أجدادها من استعمار وما جلبه من ويلات، لن يخدم الشعبين سواء الجزائري أو الفرنسي ولن يجني الطرفين من تلك الحملات سوى مزيداً من مشاعر الحقد والعداء ومزيداً من الإرهاب والدمار للإنسانية.
إن استمتاع الشعوب العربية والإسلامية في هذا الزمان بتأجيج المشاعرالسيئة من كره وحقد وعدائية لم يجلب لهم سوى مزيداً من الكره والانقسام والتشرذم، لقد سالت دماؤهم وتشتت شملهم، ولم يجمعهم دين العفو والتسامح والصفح،دين سمى فيه الله نفسه بالعفو، قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (149) سورة النساء.
دراسات لا حصر لها قام بها مختصون في علم النفس عن أهمية العفو والصفح والتسامح في تحسين نوعية الحياة، وأكدت جميع تلك الدراسات على أن المتسامحين هم أكثر سعادة ورضا من غير المتسامحين وهم أطول عمراً وأكثر ذكاءً وأكثر قدرة على الإبداع وأقل عرضة للإصابة بأمراض العصر وبالتالي هم أعلى مناعة وأطول عمراً.
من أجمل نماذج التسامح بين الشعوب، ما قرّرته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عرف العالم أسوأ كارثة إنسانية خلفتها الحروب عندما قرّرت الولايات المتحدة الأمريكية حسم المعركة سريعاً وإلقاء قنابل نووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان من أجل تدمير قوتها العسكرية، لقد قتل جراء تلك الكارثة أكثر من 120000 شخص معظمهم من المدنيين وضعف هذا العدد مات في السنوات اللاحقة جراء التسمم الإشعاعي! لكن على الرغم من ذلك قرّرت اليابان أن تسامح وتصفح وتجعل السلام مسار وعقيدة الأجيال القادمة فاستثمرت في حقول المعرفة والتكنولوجيا التي تخدم الإنسان وتنهض بالمجتمعات فنبذت الأحقاد وحقنت دماء الأجيال وترفعت عن أساليب تأجيج المشاعر والتحريض ضد الأعداء، فسامحوا وعفوا وأصلحوا وعمروا ليس البنيان فحسب، بل استثمروا في أهم رأسمال لدى شعوب الأرض ألا وهو الإنسان فعملوا على تنقية فكره من الأحقاد وعتق قلبه من أغلال الكراهية فانطلق إلى رحاب السلم والتسامح والصفح والإبداع الإنساني.
الدروس الجميلة من الصفح ماثلة أمامنا وتدعونا للتعلّم وأخذ العظة ولكن هل من مجيب؟