نجيب الخنيزي
كان لافتاً تصريح مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه بأن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وبأن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة.. وقد جاء طرح مدير الاستخبارات الأمريكية برينان مماثلاً، حيث قال: عندما أنظر إلى الدمار في سوريا وليبيا والعراق واليمن يصعب عليّ أن اتخيل وجود حكومة مركزية في هذه الدول قادرة على ممارسة سيطرة أو سلطة على هذه الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.
وأدلى المسؤولان بهذه التصريحات على هامش مشاركتهما في مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الفيدرالية الأمريكية في نهاية شهر أكتوبر الماضي. خطورة تلك التصريحات تشيء بأن المخططات الغربية بوجه عام والمخططات الأمريكية (وبمشاركة إسرائيلية) بوجه خاص، حول تشكيل شرق أوسط جديد، من خلال استحضار الحرب و العنف المرتبط «بالفوضى الخلاقة» وفقاً لتصريح كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في إدارة جورج بوش الابن المحافظة قد دخلت مرحلة التنفيذ وبشكل مباشر كما حدث في العراق وليبيا ولبنان، أو بشكل غير مباشر من خلال حرب الوكلاء الإقليميين، بما فيها القوى المتطرفة التكفيرية العابرة للحدود.
في واقع الأمر فإن جل البلدان والمجتمعات العربية تمر بمرحلة دقيقة وحاسمة وتواجه مخاطر وتحديات مصيرية هي الأشد في تاريخها الحديث فالأزمة بنيوية ومركبة وشاملة وممتدة في أبعادها القومية والوطنية وفي تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي تنعكس في احتدام التناقضات والصراعات والمواجهات الأفقية (بين مكونات النظام العربي) والعمودية (داخل كل مجتمع عربي على حدة). فعلى صعيد المسألة المركزية المشتركة (قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي وفي مقدمتها القضية الفلسطينية).
وإزاء ما يحدث اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة من أعمال قمع وقتل وتنكيل على يد القوات الإسرائيلية وقطعان المستوطنين بحق الشباب والأطفال الفلسطينيين، نجد النظام العربي عاجزاً ومتخاذلاً ومنقسماً على نفسه ويفتقد إلى الحد الأدنى الضروري للتضامن والتماسك مما سهل ويسهل تمرير المشروع الصهيوني في الاستحواذ على الأرض ومصادرة الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، الذي يلقى كل الدعم والمساندة غير المحدودة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى ومنذ أمد بعيد وقفاً لإستراتيجية بعيدة المدى لإحكام قبضتها وسيطرتها بصورة نهائية على كامل مقدرات وثروات المنطقة العربية مستندة في ذلك إلى هيمنتها العسكرية والاقتصادية والسياسية خصوصاً بعد استفرادها في قيادة العالم إثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي و»المنظومة الاشتراكية».. دون إغفال أو تجاهل دور العوامل الخارجية أو ما يسمى «بنظرية المؤامرة» في إيصال العرب إلى مأزقهم التاريخي وأفقهم المسدود حيث استطاعت الولايات والغرب عموماً تحجيم وتطويع واحتواء النظام العربي.. غير أن جذر الأزمة في الوضع العربي العام يكمن في السياسات والمشاريع الفاشلة التي اعتمدتها الدولة العربية التي تشكلت إثر معارك الاستقلال والتحرر الوطني على اختلاف مرجعيتها السياسية والأيدلوجية، ومع أنه حدثت تغيرات مهمة في بنية المجتمع العربي خلال القرن المنصرم على صعيد تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وبناء الدولة الحديثة، غير أنه سرعان ما وصل مشروع الانبعاث الوطني والقومي الذي رفعته الدولة العربية إلى طريق مسدود إثر تعثر وفشل التنمية الاقتصادية المستقلة وتراجع فكرة العدالة الاجتماعية وبروز وتبلور قوى اجتماعية بيروقراطية وطفيلية استفادت من مواقفها ونفوذها ضمن أجهزة السلطة ومؤسساتها من أجل تنمية امتيازاتها ومصالحها الفئوية الخاصة ولم تتردد في ممارسة الطرق والأساليب غير المشروعة كافة في سبيل إحكام هيمنتها وقبضتها واحتكارها القوة والثروة، وهو ما أدى عمليا إلى تبلور الدولة البوليسية (على غرار العراق وسوريا وليبيا ومصر والجزائر واليمن والسودان والصومال وغيرها)؛ كلية الجبروت القائمة على قمع حقوق الأفراد والجماعات إلى جانب التدهور العام والشامل في الوضع الاقتصادي، حيث اتسعت حدة الفوارق الاجتماعية وتدهورت الأوضاع المعاشية وازدادت معدلات البطالة والفقر لدى الأغلبية الساحقمن الشعوب العربية، وقد مثلت هزيمة يونيو - حزيران 1967 ذروة الفشل للمشروع الوطني - القومي.. الأمر الذي مهد لتصدر ما يسمى بجماعات «الإسلام السياسي» تحت مختلف العناوين والمسميات الدينية والمذهبية.
صحيح أنه كانت توجد في معظم الدول العربية مجالس تشريعية ودستور وانتخابات محلية وتشريعية وحتى رئاسية ولكن الوقائع تؤكد بأن الحزب الحاكم أو الرئيس يضمن فوزه سلفاً وبنسبة ساحقة ووصل الأمر إلى مرحلة شهدنا بعض الرؤساء أعدوا أولادهم لخلافتهم في حكم أنظمة تزعم أنها جمهورية.. وقد أدى الفشل الذريع لمجمل السياسيات والمشاريع التي اعتمدتها الدولة (الوطنية) العربية على اختلاف مرجعيتها السياسية والأيدلوجية إلى اضمحلال وتآكل شرعيتها التاريخية أو المكتسبة، وفي المقابل أخذت تطفح على السطح وتسود مختلف أشكال الانتماءات والعصبيات والولاءات الفرعية، وتستعيد مختلف الهويات القائمة على أسس أثنية ودينية وطائفية وقبلية كامل حيويتها وهذه الظاهرة تمثل سمه عامة في غالبية البلدان والمجتمعات العربية.. صحيح أن حالة التدهور والتفكك السياسي والاجتماعي والثقافي والأمني مقتصر حتى الآن (في صورته الضيقة) على بعض الدول العربية؛ غير أن جذر الأزمة ومعطياتها موجود وكامن (بنسب مختلفة) في المجتمعات العربية الأخرى التي تتشابه أوضاعها وظروفها، وبالتالي ستظل عرضة للتفكك والانهيار حين تتوافر أو تنضج الظروف والعوامل الداخلية والخارجية المواتية، إذا عملية التفكيك والهدم ومن ثم إعادة تركيب وصياغة أوضاع المنطقة العربية تظل أمراً قائماً على الدوام. ضمن هذا السياق تجيء التصريحات (الاستخبارية) الفرنسية والأمريكية.