عبد الله باخشوين
.. أكملت (الطواف) وسط تلك الرائحة الغريبة التي حامت حولي وعلقت في ذاكرتي، كأنها كائن حي أراه وأكاد ألمسه في كثافة الهواء الذي أصبحت له جاذبية خاصة تكاد تضلل عيني وهي تقودني لـ (المسعى).
كنت قد عدت من (كندا) قبل وقت قصير.. وفي الطريق إلى مكة تلقيت اتصالاً من رئيسي في الجريدة التي بدأت العمل فيها لتوي:
- أين أنت؟
قلت: (في الطريق للحرم).. ضحك وقال ساخراً: (الله يقوّي إيمانك).. ثم قال جاداً: (ادعي لي معاك.. أنا وعدت عبير أوديها في يوم قريب).. قلت: (الحكاية بسيطة.. كلها ثلاث ساعات بين جدة ومكة والطواف والسعي.. ما تقدر تفضي نفسك ثلاث ساعات).. ضحك وقال: (ادعي لي).
انتهت المكالمة قبل أن أساله لماذا اتصل أصلاً.. قلت يالله كثر خيره اللي سأل.. فمنذ عودتي لاحظت بدهشة أن الأصدقاء قاطعوني دون استثناء.. ولم يعد أحد منهم يرد على اتصالاتي الملحة والمتكررة.. والأكثر غرابة أن أحدهم بعد أن رد علي ورحب بعودتي دعاني لزيارته فوراً.. وعندما ذهبت لمنزله أخذت أطرق (جرس) الباب لمدة تقرب من نصف ساعة دون أن يرد أحد.. رغم أننى كنت أسمع صوت لعب أولاده وصخبهم الذي لم يقوَ على لجمه.. لكنه امتنع ومنعهم من فتح الباب ومعرفة الطارق.
مضيت وأنا أقول لنفسي كان أولى به أن يجعل أحدهم يفتح الباب ويقول لي - مثلاً - إنه خرج لتوه لأمر طارئ.
لكني فهمت الرسالة.
أدركت أن الذي تعقب اتصالي طلب منه عدم الرد علي أو استقبالي وقد امتثل صاغراً.
ثم في اتصال مع صديق وزميل عزيز يعيش في مدينة أخرى.. أردت أن استفسر منه شاكياً.. لكنه قاطعني وقال باختصار:
- ترى من يوم سافرت الأمور تغيَّرت.. لازم تقبل وتسلَِّم بالأمر الواقع.
بدا لي الأمر كأن أحداً ما يريد أن يكرر ما تناولته قصة (الأصدقاء) ولكن بشكل واقعي هذه المرة.. وأكون أنا بطله بالفعل.. وخلال فترة بسيطة على بقائي وحيداً أتأمل ما يحدث لي ومعي أدركت أن هناك محاولة لإعادة تطبيق قصص (الحفلة) بشكل قصدي ومباشر.. لا يبقى لي أي منفذ سوى ((لجريدة) مضيت أعمل بها وأكتب بتهور شديد.. واندفاع عدائي.. بتحريض من قوى خفية لا أعرفها.. ولا أدرك أهدافها.
ثم لم تلبث (الجريدة) أن نبذتني وأوقفت تعاملها معي دون أي مقدمات.
عندها أدركت أنني أصبحت وحيداً تماماً.. وقد تحول كل محيطي من معارف وأصدقاء.. إلى عدو سافر.. أدرك عداءة من خلال تحليلي (الخاص) للمواقف.. والإشارات والكلمات.. وكل ما نضح وينضح من آثار ومؤشرات.
عندما أردت شرح تصوراتي وهواجسي.. لزوجتي.. وأبنائي.. رأيت في أعينهم ذلك النفور والارتياب.
بدا لي كأنهم يريدون أن يعلنوا ريبتهم في سلامة عقلي.. أو تقديري في أفضل الأحوال.
عندها لم أجد بداً من اتخاذ خطوة حاسمة.
اختليت بزوجتي - ذات مساء - وقلت لها: (أريد منك أن تعديني وعداً قاطعاً أنك لن تسمحي لأحد أن يأخذني لمستشفى المجانين.. حتى لو أيقنتِ فعلاً أنني مجنون).. ضحكت وقالت: (مجنون ايه انته تجنن بلد.. وترى لا تفكر انك زمان كنت أحسن من كذا.. انته شيبت رؤوسنا وشفنا منك بلاوي كثيرة.. وبعدين احنا كلنا نحبك ونموت فيك.. ولا تصدق أن أنا أو أي واحد من أولادك يمكن يتخلى عنك ولو لحظة)..
قلت: (بس شايف).. قاطعتني وقالت بحزم: (يا سيدى فكر.. والا اتخيل على كيفك.. والا حتى اعتبرنا احنا مجانين لكن ما دامك ما (تسكر) وتأخذ (مخدرات) أمر الله اللي يجري عليك يجري علينا).. قلت: (طيب وبعدين).
قالت: (يمكن نعتبرك مريض) ثم قالت مستدركة: (هذا يزعلك).. قلت بأسف: (طبعاً يزعلني.. كان نفسي تفهموا اللي جرا لي).. قالت متطيرة: (يا سيدي ما نبغى نعرف ولا نفهم.. حل مشاكلك لوحدك.. لكن لازم تعرف أننا نثق فيك).
كانت الأصوات التي عدت بها تملأ رأسي بأحاديث متناقضة.. غير أني أدركت أن أعدائي ارتكبوا أهم وأكبر غلطة في (مشروعهم).. لأنهم جعلوا هذه الأصوات تهجم علي في (كندا).. حيث أيقنت أن هذه الحضارة الغربية لا يمكن أن تفرز الوهم العربي الذي يقول بسطوة (الجان) وما إلى ذلك.. لكنها تقول بغير التأثير الذي يريدون أن يحدثوه بي.. فلو أن هذا حدث معي في الشرق لكان ملأني بالرعب.. ولكان تحقق الهدف من الدخول إلى عقلي ورأسي.
لكن قلت.. ربما تكون هذه حراسة (أمنية).. لكن ماذا يريد أن يحرس من ادخلها.
كان شيئاً مضحكاً أن تكون على عجلة من أمرك وتغزو رأس رجل في الوقت والمكان غير المناسب.