د. جاسر الحربش
من ضمن الكوارث الطبيعية البراكين والزلازل والقحط والجراد والأوبئة والسيل الجائر، أي الطوفان الذي لا حيلة للإنسان تجاهه. المطر ليس من ضمن الكوارث التي يستعيذ منها الإنسان بالله، بل هو من أكبر النعم وأهمها. ما حصل في جدة قبل ست سنوات، ثم مرة أخرى قبل أيام لم يكن طوفانًا بالمعنى المتعارف عليه عند خبراء تصريف السيول ومهندسي المعمار. مثله يحدث كل يوم في أكثر من دولة وأغلبها دول فقيرة، لكنها لا تغرق وسيولها لا تدمر الممتلكات وتقتل الناس. من الأمثلة على ذلك دولة سيريلانكا في المحيط الهندي ودولة إريتريا على مرمى حجر من جدة على الساحل الآخر للبحر الأحمر. الميزانيات التي صرفت (ولكنها على الأرجح لم تنفق بالطرق السليمة) على مشروعات المياه والصرف في مدينة جدة تعادل الميزانيات السنوية في كل من سيريلانكا وإريتريا لعدة سنوات. الفرق هو أن التصرف الهندسي المائي في الدولتين علمي وفعال، أما الصرف في مدينة جدة فهو صرف فلوس بالمليارات ولكن من دون تصريف مياه وسيول.
البعض يسمي المآسي المتكررة مع السيول في جدة وغيرها من المدن السعودية لصوصية ونهب للمال العام، والبعض يسميها خيانة للأمانة وإهمال، والبعض يخلط هذا بذاك، والعجيب أن البعض الآخر يسميه غضبًا من الله على المواطنين بالجملة ودون تفاصيل طبقية.
تصريف السيول في إريتريا إرث استعماري إيطالي حافظ عليه الإريتريون إلى حد ما، ومثيله في سيريلانكا إرث استعماري بريطاني حافظ عليه السيريلانكيون إلى حد ما كذلك. قبل سنوات كنت في كولومبو عاصمة سيريلانكا في الموسم المطير. المدينة فقيرة في كل شيء، في المباني والمتاجر والطرق والسيارات، لكنها لا تغرق مهما كانت غزارة الأمطار، وبعضها يصل في اليوم الواحد إلى ما يهطل عندنا طيلة السنة. كانت ظاهرة خلو شوارع كولومبو من المستنقعات وبحيرات السيول أول ما يلفت انتباهي في كل يوم أذهب فيه إلى مكاتب الاستقدام هناك. الشوارع في العاصمة السيريلانكية هندست بانحناء تدريجي لا تدركه العين من الوسط نحو الجانبين، حيث توجد في كل جانب قنوات طولية بعضها مسيج وبعضها مفتوح بعرض نصف متر وعمق متر تقريبًا في كل شوارع المدينة القديمة بالذات، من مخلفات الاستعمار البريطاني. المطر في كولومبو ينهمر في مواسمه لأسابيع، لكن المدينة لا تغرق والبيوت لا تسقط والمركبات لا تتوقف والدكاكين لا تغلق.
كانت هذه الملاحظة مقتصرة على المدينة القديمة التي حل البريطانيون مشكلها مع الأمطار، ليس حبًا في السكان المحليين وإنما لتيسير الأمور لجنودهم وتجارهم وعرباتهم وبضائعهم. الطرق المستجدة في كولومبو ما بعد الاستعمار لم تكن بهذا الإتقان ويبقى فيها بعض المستنقعات والوحل، لكن ليس بما يقارن بأحوال مدينتنا جدة وغيرها مع الأمطار الغزيرة.
تنفيذ مثل هذه المشروعات البسيطة غير قابل للتطبيق في المدن الخليجية، لأنها لا تقدم وجاهة دعائية أمام العالم، وأهم من ذلك لا فتح الأبواب لصفقات فلكية مقابل مشروعات خرافية، إما تبقى حبرًا على ورق أو تنفذ بطرق مغشوشة وقاتلة، ولكن المياه تكذب دائمًا الغطاسين. يبدو أن الشيء الوحيد في هذه الصفقات الذي يتم باتقان هو تصريف الفلوس، ولا أحد يدري كيف ومتى وأين؟ لا أدري لماذا انشغلت اللجان المكلفة بالمتابعة والتحقيق والاستجواب طيلة ست سنوات لتفكيك ألغاز الكارثة المائية الأولى، ثم حلت الكارثة الثانية والأولى ما زالت من دون تقارير علمية واضحة وأحكام عادلة. المرجو هو ألا تكلف نفس الجهات السابقة للتحقيق في المأساة الحالية، لأنها وبما يشبه الإجماع في الرأي لم تنل مصداقية المواطنين.
إن كان هناك لصوص أو مهملون وخونة للأمانة الوطنية والشرعية، من هم اللصوص والمهملون بالأسماء الرباعية، وأين ذهبت المليارات، ومتى تطبق الأحكام المناسبة على المتسببين. تلك هي أسئلة الساعة في كل أنحاء الوطن، علمًا أن الأحداث الجسام التي من الممكن تلافيها لا تنمحي بسهولة من الذاكرة الجمعية.