د. جاسر الحربش
لم أكن أتخيّل أن يأتي يومٌ تثير فيه المجاهرة بعبارة: «الله أكبر» شعوراً بالتوجس والخوف والتلفت في العالم، سواءً في الصين والهند، في روسيا أو أستراليا، في أوروبا أو أمريكا وأحياناً في بعض البلدان الإسلامية.
هذا الوضع الذي وصلنا إليه، وخصوصاً كسنّة عرب كيف وصلنا إليه؟. بالتأكيد كانت له مقدمات وانتهاكات إجرامية وقعت علينا من قوى أجنبية، ولكن المشكلة تعقدت بردود أفعال حمقاء وغير مدروسة وفادحة الضرر.
سوف أتعرض لاحقاً للمقدمات والانتهاكات الاستفزازية، ثم لردود الأفعال الحمقاء وغير المدروسة.
لم تكن المجتمعات الإسلامية، والعربية السنيّة منها بالخصوص هي فقط التي تعرضت عبر التاريخ للتحديات والانتهاكات ممن هو أقوى منها بحيث طمع في الاستيلاء على ما يستطيعه من أراضيها وثرواتها وفي تحطيم معنوياتها وإذلالها. الصينيون والهنود واليابانيون والكوريون والإندونيسيون والماليزيون والأفارقة واللاتينيون الجنوبيون، كل هؤلاء تعرضوا لما تعرضنا له، ومن نفس الأعداء تقريباً.
المهم أن هؤلاء لم يتركوا حمقاهم وشواذهم يتصرفون باسمهم ويستندون على أدبيات تحقن في أدمغتهم في دور العبادة ومجالس الوعظ والمدارس.
الذي حصل هو أن هذه الشعوب صبرت وركزت على العلم وتطوير الذات ولم تمارس الإرهاب الفوضوي وقطعت رأس من يمارسه باسمها، ذلك لأن هذه الشعوب تدري أن الأيام سجال والعلم أقوى الأسلحة، وليس الإرهاب والتحريض والصراخ والدعاء، فأجلت التصرف المتسرع لتصحيح الوضع عملاً بمبدأ لكل حادث حديث إن لم يتحقق عاجلاً فآجلاً.
المقدمات الاستفزازية: العقلاء في الأمة العربية كلهم يعرفون أنه بدون تبني بريطانيا لمشروع وطن لليهود في فلسطين لم تكن إسرائيل ككيان عنصري ممكن التحقيق في بداياته. كذلك بدون الدعم العسكري والمالي الأوروبي بعد عام 1948م، ثم ضمان الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد بتفوق الكيان الصهيوني على كل العرب مجتمعين، لم يكن هذا الكيان يستطيع الاستمرار ويقتل ويهدم ويغتصب في فلسطين دون محاسبة. عقلاء العرب يعرفون أيضاً أنه بدون فرض الحصار الغذائي والدوائي بعد حرب الخليج الثانية لم يكن نصف مليون طفل عراقي ليموتون بالجوع والمرض، وأنه بدون القصف الأمريكي للعراق بما يزيد إشعاعياً مئتي مرة عن قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، لم تكن نسبة السرطانات وتشوهات الأجنة لتزيد عشرين مرة عن مثيلاتها في العالم.
إنهم يعرفون أيضاً أنه بدون الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003م وتفكيك قواه الأمنية وتدمير بناه التحتية ثم تسليمه لإيران وللطائفية المذهبية، لم يكن ليموت مليون عراقي ويشرد عشرة ملايين كلهم من السنّة العرب.
عقلاء العرب يعرفون أيضاً أن الأمريكيين سلموا بعد الحرب في يوغوسلافيا الرئيس ميلو سوفيتش ومجرم الحرب الآخر كاراديتش إلى محكمة لاهاي الدولية وليس إلى دولتي البوسنة وكرواتيا، لكنهم سلموا صدام حسين لأنه رئيس دولة عربية سني المذهب إلى إيران لينحر في يوم عيد الأضحى كأضحية إيرانية شيعية، إمعاناً في التحطيم والإذلال للهوية العربية السنيّة.. وأخيراً يعلم العقلاء العرب أنه بدون التشويه الإعلامي اليهودي الأمريكي الغربي للإسلام والمسلمين وتسميم عقول الشعوب بطريقة مدروسة وممنهجة لدرجة القدرة على إدخالها في وسائل الإعلام العربية، لم يكن هذا الإرهاب الخبيث والمدمر ليحدث، ولم يكن العالم كله اليوم ليعتبر الإسلام بذاته ديناً إرهابياً والشعوب العربية السنية مارقة تستحق الاحتقار والملاحقة والتقتيل والتهجير التي تعرضت لها وما زالت.
انتهى الكلام عن المقدمات الاستفزازية.
الاستجابات وردود الأفعال الغبية: كل عقلاء العرب السنّة يعرفون ما سبق قوله وسوف يبقى في الذاكرة حتى تصبح تصفية الحساب بالطريقة المناسبة ممكنة، لأن الظرف التاريخي الحالي يتطلب التعامل بالعقل والحكمة والتعايش مع العالم، وقبل كل شيء بالاستزادة من العلوم الحقيقية المفضية إلى المناعة والاستعداد، وليس إلى التحريض والصراخ والفوضى.
رغم كل التراكم المعرفي في العقول الحكيمة المتوازنة عن الانتهاكات والاستفزازات، إلا أنها تستوعب مبلغ الضرر الفادح الذي يلحقه بالأمة التصرف الإرهابي الفوضوي الأحمق الذي يمارس تحت رايات الجهاد المدمر للأهل قبل العدو، بما في ذلك التحريض عليه والدعوة إليه وجمع الأموال له.
وهو ضرر يحدث أمام العالم كله كشهود، ويسقط ضحاياه بأعمال انتقامية تمارس بطرق الغدر والتعدي على الغافلين الأبرياء.
واقع الحال يصرخ بملء فمه بأن المجتمعات العربية لا تمتلك من مصادر القوة غير الأعداد البشرية.
العلم والسلاح والاستقرار المعيشي والحقوقي العادل والتخطيط الحكيم لعبور الحاضر المتفكك إلى المستقبل المتماسك، كل هذه القدرات ليست متوفرة حالياً للعرب السنّة ولا الشيعة على كامل انتشارهم الجغرافي.
عندما يحرّض على الجهاد داعية نرجسي مغرور بنفسه ضعيف العقل والإدراك، ويروّج كادر باطني سري، مخترق غالباً من حيث لا يدري، للالتحاق بتنظيمات الإرهاب والبدء بتكفير وقتل الأهل والأقارب وهدم المجتمع الذاتي، عندئذٍ يساهم هؤلاء الحمقى في سحب مجتمعاتهم إلى الفخاخ القاتلة التي يتمنى لهم ناصبوها.
تجفيف منابع الإرهاب الفكرية الداخلية في المجتمعات العربية السنيّة أهم خطوات المرحلة، للتخلص من الذين حولوا عبارة «الله أكبر» التعبدية إلى مصدر خوف واحتقار عالمي.