زكية إبراهيم الحجي
الأحداث التاريخية نواة للتاريخ وكثير من الأبطال صنعوا التاريخ وكُتِبت سيرهم في سجلات التاريخ بمداد من ذهب.. ومثلما وُجِد هؤلاء الأبطال وأوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانة مميزة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة فإن التاريخ أيضاً يحفل بكثير غيرهم لا يقلون عن أولئك بطولة وتأثيراً لكنهم لم يحظوا بالشهرة التي يستحقونها ولم يكن لسيرهم وبطولاتهم موقعٌ في ذاكرة الأجيال
بل بقيت أسماؤهم وسيرهم البطولية محصورة ضمن أفق معرفي ضيق ربما لا يتجاوز الإطار الجغرافي والزماني الذي صنعوا تاريخه وأقاموا أمجاده.
عندما تخلع الشمس بردتها عن الكنوز المدفونة في تاريخ الأدب الجاهلي العربي وعندما نغوص في أحشاء بحور الشعر فنتصيّد الدرر المكنونة من قصائد مثقلة بالجمال والإبداع.. متشحة بالطهر والعفاف تطالعنا مليحة الهدب المنكسر بدر في ليل الغريب أسيرة عفيفة يمزق نداء خافت تدمغه لوعة حزن وانكسار «ليت للبراق عيناً فترى» ظلمة ووحشة وحسرة ليلى بنت لُكيز» الملقبة بالعفيفة.. تلك المليحة التي أبت عليها عفتها الاستسلام لأنياب مطامع كسرى ملك الفرس وآثرت قسوة عذاب الأسر صامدة ولسانها ما انفك يردد:
غللوني قيدوني ضربوا
ملمس العفة مني بالعصا
يكذبُ الأعجمُ ما يَقربُني
ومعي بعض حشاشات الحيا
أبياتٌ موغلة في الذاتية وصاحبتها الشاعرة ليلى العفيفة بنت لُكيز بن مرّة من قبيلة ربيعة.. شاعرة جاهلية كانت من أملح بنات العرب وأجملهن خصالاً.. تقدم لخطبتها الكثير من أسياد القبائل العربية فأبت وآثرت البقاء في قبيلتها.. ذاع خبر جمالها وعفتها وأخلاقها الحميدة فوصلَ إلى كسرى ملك الفرس فرغِب فيها ورغِبت هي عنه.. حاول إغراءها بالحُلل والحُلي فكانت المحاولة دون بلوغ الحول.. فقلب ليلى خفَّاقٌ بحب ابن عمها البرَّاق لكن والدها أراد أن يزوجها بملك يعزز وجاهته بين العرب فلم تعص أباها وتعففت من البرَّاق رغم تعلقها به فغاب الحبيب عن قبيلته.. وفي فترة غيابه ثارت حرب ضروس بين تغلب وقضاعة وطي قُتِل فيها الكثير واتسع الخرق فاستنجدوا بالبراق فتحقق النصر لهم.. ولما كان كسرى قد خطب ليلى العفيفة فرفضته نصب لها كميناً في غفلة واختطفها ونقلها إلى فارس.. وهناك حاول أن يتزوجها فتعففت وامتنعت ولم يزدها ترغيبه وترهيبه إلا إصراراً حتى خيّرته أن يقتلها أو يعيدها إلى قومها وعشيرتها.. وما كان منها إلا أن تستصرخ ابن عمها البرَّاق وتستحثه وقومها لإنقاذها قائلة:
ليت للبراق عيناً فترى
ما ألاقي من بلاء وعنا
يا كليبا وعقيلا إخوتي
يا جنيدا أسعدوني بالبكا
ويصدف أن يسمع راعٍ عربي ليلى وهي تستصرخ وتندب قومها بهذه الأبيات فيسرع إلى البراق يبلغه صرخة المناجاة الحزينة، فما كان من البراق إلا أن اعتلى صهوة جواده وانطلق يعفر الفيافي ليخلّص المليحة المنكسرة من جور الأسر الفارسي فاستحق الفوز بها.
قصة خُلِدت في أعماق تاريخ التراث الأدبي وقليل من قرأ عنها.. وقصيدة جذبت الخيال بأبياتها ذات النزعة الإنسانية المتجلية في الدوران حول معدن الإنسان وجوهره وقليل من يعرف صاحبتها ذات الهدب المنكسرة العفيفة المتمنعة التي عانت من الأسر وجور الزمن وغدره فما كان منها إلا أن استفتحت قصيدتها مستهدفة ابن عمها وحبيبها والذي توسمت فيه القدرة على تخليصها من الأسر.. فهو رمز الشجاعة والتضحية:
ليت للبراق عيناً فترى
ما ألاقي من بلاء وعنا
ثقب تطلعت من خلاله عين البراق على مأساة حبيبته ومعاناتها وتمنُّعها على الأعجمي إخلاصاً له وصوناً لشرف قبيلتها ما أجج حبه لها وتوقه للقاء بها وهذا ما تحقق.