زكية إبراهيم الحجي
بابل عصر الهرج والمرج.. بابل الحدائق المعلَّقة وشرائع حمورابي.. بابل القِدَمُ الغابر الذي اكتنفته الأساطير.. بابل الحضارة التي اخترقت بلاد الرافدين.. بابل مدينة الطقوس والتعاليم السحرية قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ......}.. بابل المدينة الأسطورية التي صنعت من نفسها مسرحاً لأهم أحداث التاريخ على مدى قرون.. فباتت حاضرة في وجدان التاريخ تستلهمها البشرية كرمز لمدينة المفارقات..
ما بين حضارة وعراقة وتاريخ وإنسان.. معابر وقوافل وازدهار فصول.. وبين غرق في الترف وغيمات من العطر والبخور تتسكع في دهاليز القصور.. ومع ذلك تبقى بابل أسطورة التاريخ.. الرخام الذي صنع المجد للإنسان.
بابل الحضارة التي تعني العالم أجمع وارتبط اسمها بالعديد من الديانات السماوية.. وصارت جزءاً من مكونات المعرفة لدى أي مثقف أو متخصص في تاريخ الحضارات.. ترى متى بدأت وكيف كانت قبل أن تتحول إلى مدينة أشبه بمدن أشباح اغتالتها قسوة أصابع الزمن في ظل تدهور أوضاع بلاد ما بين النهرين.
نحن في حياتنا، وبشكل عام كثيراً ما نستعمل كلمتي»حضارة وثقافة» كمترادفتين، وهذا على وجه الدقة ليس بصحيح.. الثقافة نشأت ونمت مع الإنسان وستبقى ما دام النسلُ البشري باقياً.. أما الحضارة فإنها وُلدت يوم أن بدأ الإنسان عمارة الأرض.. وهي عبارة عن مرحلة معينة من تاريخ كل جيل من أجيال البشرية، وتتحدث عن تطوره ومنجزاته.. ومع مرور الزمن وتوالي الأجيال تندثر حضارة وتُشيد حضارة، وتبقى معالم الحضارات السابقة مجرد اسم يعيش في وجدان التراث.. وقد شهد الشرق القديم وعلى مدى تاريخه الموغل في القدم والممتد لآلاف السنين حضارات متعددة انبثقت وازدهرت ثم اندثرت إلا القليل، ومنها حضارة بابل التي استمرت لقرون لأن أسطورة التاريخ بابل جمعت بين الحضارة والثقافة.
بدأ العصر البابلي عندما هاجمت قبائل أمورية بدوية الأراضي الممتدة بين دجلة والفرات، في الوقت الذي كانت المنازعات مستمرة بين المدن البارزة، فاحتلت هذه القبائل مدناً عديدة ومنها مدينة بابل التي كانت في ذلك الوقت مجرد محطة للقوافل التجارية، وبذلك كانت أول ومضات الحضارة البابلية على يد هذه القبائل التي يعود إليها الفضل في ازدهار عصر الحضارة البابلية، حتى إن ملوك بابل كانوا يطلقون على كل سنة من سنين حكمهم اسماً يحمل ذكر أهم الأحداث التي حدثت في تلك السنة.. ويأتي ضمن من حكموا بابل حمورابي الذي تمكن بما تميز به من قوة وذكاء أن يهزم خصومه واحداً تلو الآخر، وينتصر ويؤسس أول إمبراطورية معروفة بعد طوفان الصراع.. وتبدأ بابل عهداً جديداً وتستقر على عرش الحضارة والتاريخ.
عُرف عصر حمورابي بالعصر الذهبي والذي لم يشهد له مثيل في تاريخ بابل الطويل، فكان التفوق والمكانة والسيادة لها.. وكان التنوع الثقافي والعمراني، وأضحت بابل لؤلؤة الشرق العربي القديم.. ولئن كان حمورابي شخصية عسكرية عالية القدرة، فإن الجانب الإداري والتنظيمي لديه لم يكن يقل عنه في الجانب العسكري.. وما مسلته الشهيرة في متحف اللوفر بباريس، إلا واحدة من أقدم وأشمل القوانين التي سنّها في عصره.. هي تشريعات دقيقة لمختلف شئون الحياة وتحديداً لواجبات وحقوق الفرد في المجتمع كل حسب وظيفته ومسؤوليته، انتهت الحضارة البابلية بسقوطها بعد موت حمورابي.. وسقوطها كان إحدى القضايا التاريخية التي ظلت عالقة تحمل بين طياتها ملابسات وألغازاً لا يمكن فهمها والاستدلال عليها حتى يومنا هذا، وربما يعود ذلك إلى قلة المصادر التي تتناول حدث سقوط بابل.
حضارة عريقة ازدهرت وتألقت وخلفت تاريخاً عظيماً.. هكذا هو تاريخ الشعوب تحدده الحضارات التي نشأت عليها والثقافات والمعارف التي تناقلتها على اختلاف الحقب التاريخية المتعاقبة.. فالإرث الحضاري الذي يتشكّل في فترات مختلفة من حياة الشعوب هو ثروة التاريخ لأي أمة.