د.عبدالله مناع
كان مذيع نشرة أخبار مساء يوم الثلاثاء -ما قبل الماضي- من قناة (العربية) الإخبارية -الزميل خالد مدخلي-، وهو يذيع أخبار هطول الأمطار على مدينة جدة في ذلك اليوم.. بينما كانت (كاميرات) القناة تنقل مشاهد الغرق الذي كانت تتعرض له شوارع المدينة وميادينها
وأنفاقها الجديدة والقديمة بعيد سويعات قليلة من هطول الأمطار.. رائعاً في استيضاحاته من المتحدث الرسمي للعلاقات العامة بالإمارة -وقد اتصل به.. وهو على الهواء مباشرة- ليسأله عن أسباب تكرار غرق الشوارع والأنفاق..؟.
فنفى بداية أن يكون لـ(الإمارة) صلة بذلك.. ثم عاد وقال إن (الإمارة) تتابع المشاريع، إلا أنه تراجع عن ذلك أيضاً عندما سأله (الزميل): وهل من (المتابعة).. القبول بـ(أنفاق) لا تعمل بكفاءة..!؟ ليقول (المتحدث): بأن (الإمارة) مسؤولة عن (مشروع تصريف مياه السيول) القادمة إلى جدة من شرقها، وقد أدى المشروع دوره بكفاءة وحمى جدة من مياه السيول.. ولكنها ليست مسؤولة عن (مشروع) تصريف مياه الأمطار داخل المدينة وبين أحيائها، وهو أمر يحتاج إلى مشروع مستقل بذاته!! فسأله (المذيع): وهل لم يُقر مشروع تصريف مياه الأمطار بعد الحادثة الأولى..؟
فأجاب.. بأنه أُقر.. لكن هناك تباطؤ في التنفيذ، لتنتهي مداخلاته -أو استيضاحاته- عند اعترافه بأن هناك تقصيراً، وأنه يضم صوته إلى صوت الزميل المدخلي!!.
* * *
لكن الذي حدث في جدة.. يوم الثلاثاء ما قبل الماضي لم يكن (تقصيراً).. كما قال متحدث العلاقات العامة.. بل كان (ملهاة) مضحكة مبكية.. عندما نقرأه في ظل ما تعرضت له مدينة جدة خلال عامي 1430هـ و1432هـ.. على التوالي، والقرارات العليا التي صدرت في أعقابهما، والميزانيات التي اعتمدت حينها.. لتجنب تكرار وقوعها، فما (المعجزة).. في أن نقيم (مجاري) تتسع لبقايانا الإنسانية ولـ(أمطارنا) القليلة.. التي لا تزيد عن مرتين إلى ثلاث مرات في العام..؟.
الأكيد.. أنه لا توجد (معجزة) في إقامة هذا النوع من المجاري التي تتسع للبقايا الإنسانية ولمياه الأمطار (معاً).. ففي كل مدن العالم الغنية والفقيرة توجد هذه (المجاري) القادرة.. أو هذان النوعان من المجاري لـ(البقايا) ولـ(الأمطار)، ولكن هناك خللاً عميقاً.. كشفت عنه -من قبل- مجريات ما حدث في المرة الأولى عام 1430هـ، عندما علم المواطنون والمقيمون والناس جميعاً.. بأن هناك أراضي شرق طريق الحرمين، وهي أراضي أودية معروفة بمرتفعاتها وبطونها.. بيعت أو منحت لبعض المتنفذين، الذين قاموا بتسويتها وتخطيطها وبيعها دون حساب لبطون الأودية فيها، والتي تتحول إلى مجارٍ للسيول عند قدومها من الشرق.. وهو ما أدى إلى وقوع تلك (الكارثة) التي ذهب ضحيتها عشرات العشرات من الناس إلى جانب ممتلكاتهم من المنازل و(المتاجر) والمركبات، والتي تصدى لها خادم الحرمين الشريفين آنذاك الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- بقراري: (لجنة تقصي الحقائق) لمعرفة المتسببين عن (الكارثة) لمعاقبتهم.. و(التعويض) المنصف السخي على من فقدوا حياتهم أو ممتلكاتهم.
ومع أن (الهامشيين) في تلك (الكارثة) -وليس (المتنفذون) الملوثة وضمائرهم- هم من وقع عليهم غرمها.. إلا أن عامة الناس ظلوا على ثقة من أن (الكارثة) لن تتكرر بعد تلك القرارات الصارمة والضجة الإعلامية التي صاحبت إلقاء القبض على المتهمين وملاحقتهم.. لتقديمهم لـ(لجان التحقيق) أو للادعاء العام.. إلا أن (الكارثة) تكررت وبكل أسف، في الثاني والعشرين من شهر صفر من عام 1432هـ.. أي بعد أربعة عشر شهراً من الكارثة الأولى.. ليعود أهالي جدة والمقيمون بها ومن جذبتهم من أنحاء المملكة لسكناها.. إلى السباحة وركوب القوارب المطاطية في ميادينها وشوارعها الرئيسية الكبرى -مثل: طريق الحرمين وطريق الملك عبدالله وشارعي فلسطين وصاري- مجدداً.. بعد أن تحولت تلك الميادين والشوارع المحورية إلى مسابح دولية عظمى لا مثيل لها!! لتتسرب أخبار أسباب الكارثة الجديدة على القور -والتي أسماها الجميع بـ(الفضيحة)- عبر الفضائيات المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي.. كاشفة عن خلل فني أو أخلاقي أو (هما) معاً.. تمثلا في انهيار (سدام الخير) -شرق طريق الحرمين- الذي أعيد بناؤه بعد الكارثة الأولى عن طريق إحدى الشركات بالطريقة (إياها)، وتم استلامه بالطريقة (إياها)!! لينهار مع أول زخات مطر شهدها ذلك اليوم.. وأول دفقة من سيول جدة التي حركتها تلك الزخات، ليكون ذلك اليوم العصيب، الذي لم ينسه أحد ممن كانوا في جدة يومها..!!.
لقد قال (المبررون).. ساعتها وما أكثرهم في الدفاع عن (الإدارات) التي تتولى زمام الأمور في مدينة جدة.. بأن الأربعة عشر شهراً التي مضت بعد الكارثة الأولى لم تكن كافية لدراسة أوضاع السيول ومياه الأمطار في جدة، ووضع الحلول العلمية الهندسية الدائمة لها.. إن كان ببناء المزيد من (السدود) في شرق جدة أو بإقامة شبكة لتصريف المياه في داخل المدينة.. مع وضع الخرائط اللازمة لها وترسيتها على الشركات المقاولة التي ستتولى تنفيذها، فسلم الناس.. بما قاله (المبررون) رغم معرفتهم بأن معظمهم إن لم يكن جميعهم (نفعيون) وصوليون.. لم يريدوا خدمة (الحقيقة) بما قالوه.. بقدر ما أرادوا به خدمة أنفسهم ومصالحهم وقربهم من الإمارة أو المحافظة أو الأمانة..!!.
* * *
على أي حال.. انقضت خمس سنوات على (الفضيحة) الثانية بعد ذلك: من شهر صفر من عام 1432هـ.. إلى شهر صفر من عامنا الحالي 1437هـ.. لم تهطل خلالها أمطار معتبرة على مدينة جدة.. حتى قيل بأن ذلك لم يكن مصادفة.. بل كان بفعل طائرات من سلاح الجو.. كان يتم إرسالها إلى أجواء جدة لتبديد السحب الماطرة طوال تلك السنوات.. وهو ما لم أصدقه!! لكنه حدث.. فقد توقفت الأمطار الحقيقية عن جدة.. أو كادت طيلة تلك السنوات أو ما حولها.. إلا من رشات وزخات ابتلت بها الشوارع والميادين بالكاد.. إلى أن جاء صباح يوم الثلاثاء ما قبل الماضي -الخامس من شهرنا هذا- لتهطل على جدة أمطار حقيقية.. حذرت (مصلحة الأرصاد) مسبقاً من غزارتها.. لتغرق الشوارع والميادين وتمتلئ الأنفاق بالمياه.. بعد ساعات قليلة من هطولها، ويعود معها (موال) السباحة وركوب القوارب المطاطية في الشوارع والميادين وتكدس العربات الغارقة في مياه الأنفاق.. مجدداً، ولولا استجابة وزارة التعليم لتحذير مصلحة الأرصاد بتعليق الدراسة النظامية والجامعية ليومي الثلاثاء والأربعاء.. مع امتناع موظفي الدولة والقطاع الخاص عن الذهاب إلى أعمالهم خلال تلكما اليومين، واللذين مددهما أولياء الأمور والطلبة الجامعيون أنفسهم ليوم ثالث.. لتضاعفت الخسائر والأضرار، وأصبحت الإحصائية التي أعلنها (الدفاع المدني) يوم الأحد الماضي عن الـ(أربعة) الذين لقوا وجه ربهم، والـ(124) أسرة المتضررة، والـ(136) عقاراً التي تدمرت جزئياً أو كلياً.. موضع تندر المواطنين والمقيمين والسكان عموماً..!!.
* * *
وإذا كان المواطنون والمقيمون.. قد صُعقوا بمشاهد (الغرق) في ذلك اليوم نفسه، وهم يكادون لا يصدقون ما تراه أعينهم على شاشات التلفزيون.. فإنهم أخذوا يتساءلون عن أسبابه؟.. وفي ذاكرتهم أسباب ما حدث في الكارثة الأولى عام 1430هـ التي علموها، وأسباب ما حدث في تكرارها عام 1432هـ والتي علموها أيضاً، لكن ما حدث هذه المرة.. جعلهم يتساءلون حائرين..!؟ أين ذهبت الخطط التي وضعت.. وأين ذهبت ملايين الملايين التي رصدت وصرفت من أجل إقامة (سدود) شرق جدة، وبناء (شبكة) لتصريف المياه داخل المدينة..؟ وماذا كانت تفعل كل تلك الإدارات المسؤولة عن المدينة.. طوال السنوات الخمس الماضية، لتجنب تكرار ما حدث في المرتين السابقتين..؟.
إن أسباب ما حدث هذه المرة.. ربما تكمن في هذا (التعدد) للإدارات المسؤولة عن (جدة)!!؛ وربما تكمن في اختلاف (أولويات) هذه الإدارات.. بين من يريد منها تطوير (كورنيش جدة الشمالي) أولاً متناسياً أن هناك كورنيشاً جنوبياً رائعاً في جدة لم يقرئه أحد السلام منذ ربع قرن.. بيده الحل الحقيقي لأزمة الازدحام في كورنيش جدة الشمالي.. وبين من يريد التمكين لبعض (الهيئات) المتمكنة أصلاً بسلطاتها الواسعة.. وبين من يريد دعم شركته لـ(التطوير العمراني) في وقت يدهش فيه الناس - أصلاً- من وجود شركة يملكها -بالكامل أو تملك بعضها- إحدى أمانات مدن المملكة..!!.
ولذلك..
ومع بقاء الحال على ما هو عليه.. فإن احتمال تكرار ما حدث يوم الثلاثاء ما قبل الماضي لـ(المرة الرابعة) أو ربما (الخامسة).. يظل هو الأكثر وروداً!! وعلى أهالي جدة وسكانها والمقيمين بها.. أن يسألون الله -جلت قدرته- اللطف بهم وبمدينتهم.. كلما جاء خريف.. وذهب آخر!! وليشمت الشامتون.. بشعار (جدة غير)..؟!.