نجيب الخنيزي
صعود وتصدر الإسلام السياسي بوجه عام، والتنظيمات التكفيرية الإرهابية بوجه خاص، في العديد من البلدان العربية وخصوصاً تلك التي شهدت على مدى السنوات القليلة الأخيرة ما سمي بثورات «الربيع العربي» يعود إلى خليط من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية نذكر من بينها، تعثر جهود تجديد وإصلاح الفكر الديني في المجتمعات العربية، الذي حمل لواءه وعمل على ترسيخه الرواد الأوائل من علماء الدين المصلحين، ممن قاموا بترهين الفكر الديني، وفقاً لمتطلبات الحياة والزمن والواقع المعاش، من منطلق مصالحة الدين مع الواقع ومتطلباته، وبما يتضمن التفاعل الخلاق مع منجزات ومكونات الحضارة المعاصرة، وخصوصاً دعوتهم إلى تبني مبادئ العقلانية والحداثة في التعليم والتربية والإنتاج والإدارة والقضاء والسياسة والموقف من حقوق المرأة، غير أن تلك الجهود سرعان ما تبعثرت بعد غيابهم، خصوصاً مع افتقاد الحامل والتكوين الاجتماعي الداخلي الحديث الذي يسنده، وعجز النخب الدينية والفكرية العربية عن متابعة إرثهم، وفي توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية، لذا ظلت أسيرة الهروب إلى الموروث والتراث السلفي/ الماضوي، وإسقاطه التعسفي على الحاضر، أو الهروب إلى الآخر (الغرب) ومحاولة الذوبان والاندماج فيه، وفرض تجربته (التي لها سياقاتها التاريخية والموضوعية المختلفة) في تفاصيلها على الواقع العربي المغاير، كما فشلت محاولة التوفيق والتلفيق ما بين الحفاظ على مكونات الهوية والتراث من جهة، وبين النقل الانتقائي والتحديث السطحي لمظاهر تقدم ونهضة وحداثة الغرب من جهة أخرى.
كل ذلك أفرز وضعاً هجيناً على المستوى الحضاري والاجتماعي والثقافي والنفسي، يتمثل في سيادة المجتمع الأبوي المستحدث الذي يُعبر عنه في تكريس التسلط والاستبداد، وغياب أو تغييب مفاهيم وقيم إنسانية كونية عامة، أصبحت إلى حد كبير ملزمة وراسخة في معظم أنحاء المعمورة كالحرية والديمقراطية والعدالة والتعددية وحقوق الإنسان، وبالطبع لا يمكن إغفال العوامل الداخلية الأخرى الكامنة في المجتمعات العربية والتي تتمثل في أنساقها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية السائدة، التي تتسم بالتخلف والانقسام والانفصام، وهيمنة الفكر الأسطوري التأملي، ورسوخ العادات والتقاليد البالية، وقيم القبيلة والعشيرة والطائفة، وشيوع اقتصادات ريعية ونشاطات طفيلية وهامشية غير منتجة، ناهيك عن الفشل الذريع للنخب العربية التقليدية أو الحديثة على اختلاف مكوناتها، ورغم تأثيرها الإيجابي ومساهماتها الملموسة في بعض المراحل، وخصوصاً إبان مرحلة النضال ضد هيمنة الاستعمار والتمدد الصهيوني في المنطقة العربية، غير أنها تجاهلت تبني قيم العدالة والحرية في داخل مجتمعاتها، كما أنها سرعان ما انشغلت بصراعاتها العبثية، فيما بينها وفي داخلها، إلى جانب الإخفاق في تحقيق التنمية المستدامة الشاملة بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في ظل وجود بيئة تتسم بالتخلف الاجتماعي والاقتصادي المريع، والتمايز الطبقي الصارخ، والتكلس والجمود الثقافي، والاستبداد السياسي، والفساد المالي، وحيث تم مصادرة الدولة والمجتمع، وتحت عناوين مختلفة، كما جرى توظيف الدين (تديين السياسة) على نطاق واسع، كمطية وأداة لتمرير وفرض الاستبداد، وتهميش الجميع بما في ذلك حقوق الأفراد والجماعات، مما نجم عن تلك السياسات والممارسات تغييب أو تهميش مؤسسات المجتمع المدني، وهو خلق فراغا عاماً، في ظل الإحباط واليأس والغضب بين الشعوب التي يطحنها التخلف والجهل والمرض والفقر والبطالة والتهميش. غير أنه سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وعلى النحو الذي يذكرنا بقصة وحش فرانكشتين في رواية ميري كودين الذي أنقض على صانعه بهدف قتله، فقد جرى اغتيال السادات من قبل جماعات أصولية متطرفة، كما أن تفاقم أعمال العنف والتكفير والإرهاب قد تصاعد على نحو خطير، وخصوصا في البلدان التي حظي فيها الإسلام المتأسلم بحرية الحركة والدعم غير المحدود من قبل الحكومات على مدى عود من الزمن، وقد مثل إعلان ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) قيام دولة الخلافة ومبايعة زعيمها أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين ذروة تجريف البلدان والمجتمعات العربية وتذررها وتقسيمها وفقاً للهويات المذهبية والعرقية والمناطقية. الغرب الذي غض النظر عملياً (أن لم يكن متواطئا) عن تمدد وانتشار تنظيم «داعش»، رغم معرفته بمشاركة عشرات الآلاف من الأوروبيين والأجانب (40000 أجنبي) في صفوفه، وكالعادة انقلب السحر على الساحر حيث تشكل جيلاً جديدًا من الإرهابيين العائدين من الخارج والكامنين في عقر داره.
وبالتالي لم يعد الغرب بمأمن من انعكاسات وذيول صراعات المنطقة فقط، بل أصبحت أراضيه وعواصمه مسرحاً فعلياً للعمليات الإرهابية.