د. حسن بن فهد الهويمل
فوجئت بموعد بعث المقال، ولما أتحرف للكتابة. وأنا حريص كل الحرص على اختيار الموضوع المناسب، وصياغة العنوان الجاذب؟.؟
ولاسيما أن النقد الحديث طرح مصطلح [عتبات القراءة] وأعطاها جل الأهمية. ولن أمضي في تقصي مقاصد المصطلح، ومحققاته. فلهذا مكان غير هذا.
الكاتب الذي يحترم نفسه، وقراءه، يضع نصب عينيه سلامة اللغة: نحوياً، وصرفياً، وإملائياً، وأسلوبياً، مع جودة البناء، وجمال الصياغة، والخلوص من المقال الإنشائي إلى المقال الثقافي، الممتع المفيد.
وقد لا تروق الأساليب المتأنقة للمتعجلين. وما عليَّ إذا لم يحفل بما أود السواد الأعظم. فما ينفع الناس، يمكث في الذاكرة، فيما يذهب الزبد جفاء.
والتأني في الأداء خير من العجلة. وإن كان عصرنا ينتهب الخطى. والناس مجمعون على أنه عصر السرعة. والكَبْسلة المعلوماتية.
هذه المفاجأة لم تدع لي فرصة التأمل، وترتيب الأولويات. وشَقِيٌّ مثلي، غمس نفسه في قضايا أمته المعقدة، وأخذها من أطرافها، لن تعوزه الموضوعات، بل يكاد يذودها عنه، ثم لا يدرى ما يأخذ منها، وما يدع.
ومهما جد الكاتب، واجتهد، فإنه سيظل رهين التكرار، والإعادة، والاستعارة.
على حَدِّ:-
ما ترانا نقول إلا معاراً
أو معاداً من قولنا مكروراً
وكيف يتخلص الكاتب من التكرار، والشعراء الجاهليون أبدوا تخوفهم من وقوع الحافر على الحافر.
فهذا [العبسي] يقول:-
[هل غادر الشعراء من متردم]
ومن قبله [الملك الضليل] يقول:-
[نبكي الديار كما بكى ابن حذام]، وكلهم جاهليون.
ظاهرة [السرقات الأدبية] لم يسلم منها شاعر، ولا مفكر، حتى جاء النقد الحديث، ولطَّفها بمصطلح [التناص]. وإن مَهَّد لذلك [الخالديان] في [الأشباه والنظائر]
ويُرْوى عن الخليفة الراشد [علي ابن أبي طالب] رضي الله عنه، وأرضاه قوله :-
[لولا التكرار لنفد الكلام] أو كما قال الله وحده الذي لا تنفد كلماته:- {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}.
أحسب أن هذا الاستطراد التَّحفظي لن يبرئ الساحة من عثرات القلم، وتلعثم اللسان، وتسويف الكسول. واجترار القول.
وكم عاتب الله المعذرين، ولام القاعدين:- {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّة}. ونعوذ بالله أن نكون ممن يكره الله انبعاثهم، للقيام بالمهمات الجسام.
الجهاد بالقلم، واللسان، لا يقل عن الجهاد بالسنان. وكيف تتأتى المفاضلة، والله سبحانه وتعالى يندب رسوله إلى الجهاد بالقرآن، وهو كلام:- {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، يعني بالقرآن، على أصح الأقوال.
والله قد مهّد لهذا الأمر بالجهاد بقوله:- {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}، والجهاد: اسم جامع لمنتهى الطاقة. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:- [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر].
وصيغة [المفاعلة] تعني مقابلة مجهود بمجهود. ولذلك وُصِفَ الجهادُ بالكبير، فالمخالف من حقه مبادلة الجهاد بجهاد مضاد. وهذه سنّة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول. والبراعة في حسن الإدارة لأي قضية قابلة للاختلاف، أو الاجتهاد، إذ [لا اجتهاد مع النص] والفقهاء يقصدون النص القطعي الدلالة والثبوت. ومصطلح [النص] عندهم، يختلف عن مفهومه عند الأدباء. والاجتهاد في المظنون، لا في المتيقن.
ومن ظن أنه قادر على طرح رؤيته دون تصدٍّ من المخالف، وتحدٍّ من المناوئ، وصمودٍ من المتعصّب، فإنه يفقد القدرة على إعداد المستطاع من القوة المعنوية: قوة الحجاج، والجدل، والحوار. ورباطة الجأش، وترويض النفس جزء من الإعداد.
والذين يعبدون الله على حرف، يلوذون بالفرار عند أول مواجهة:- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.
حفزني إلى كتابة ما تقرؤون متابعتي لفيوض القول المتوتر، ولفت نظري كُتَّابٌ ألفوا الإثارة، والاستفزاز، وتصيُّد الشواذ من المسائل، والمفضول من الآراء، لسد ما يعوزهم من الآراء السديدة، والمعارف العديدة، أو لإشباع رغبتهم في الشهرة، وتداول أسمائهم على الألسن. وهذه الشهوات تعمي، وتُصِمُّ، وتملأ المشهد بالزبد، والغثاء.
قلت، ولما أزل أبدئ، وأعيد:- الصراع إكسير الحياة. وبدونه تضوى الحياة، وتذبل شجرتها، وينطفئ وهجها.
وفي خضم الصراع كلٌ ميسَّر لما خُلق له:- {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}، فكلٌ له طبيعة، وسلوك، وعقيدة، وتصوُّر.
و[كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها]. وبعض المفسرين جعل [الشاكلة] الدين، والمذهب الذي جبل عليه الإنسان.
فكل إنسان يعمل على ما يشاكل أصله، وأخلاقه، ومعتقده، وثقافته، وتصوره للأشياء، والله وحده [أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً].
فكم تطالعنا بعض الصحف، والمواقع، بآراء، وتغريدات غاية في النكارة، والشذوذ. وقد يقع بعض المتقولين في [نواقض الإيمان] من حيث يدري، أو لا يدري. وقد يستعدي باهتياجه الأرعن الرأي العام، ويسهم في تصديع اللحمة الوطنية.
والراصد لمثل هذه الشطحات، يأخذه الاستغراب، والاستنكار. فالاختلاف لابد أن يكون محكوماً بالنص القطعي، والعقل السليم، والتجربة السديدة، والمقاصد الرشيدة، والمصالح العامة.
والناس لا تصلح حياتهم بالفوضى. ومن ثم لابد من سلطة سياسية عادلة، ومرجعية علمية واعية، وأنساق اجتماعية غير ضارة.
والتمرد على تلك السلطات الثلاث وقوع في الفوضى. وكم هو الفرق بين المساءلة، والمراجعة من جهة، والتنازع، والتسلط من جهة أخرى.
وفي لُجَّةِ المناكفات، لا بد أن يكون الأطراف على علم بما يتداولون، ولابد أن يتوفروا على قواعد كل معرفة، وأصول كل علم يخوضون فيه.
ومن أطلق لسانه في قضايا أمته المصيرية، وهو خلو من هذه الضوابط، أوقعها في الفوضى.
وكم من كاتب يخوض في آيات الله، وكأنه المعني بقوله تعالى:- {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
ومع ما يسوؤنا من تلك الظواهر، نبرأ إلى الله من التصنيف المشتت، أو الاستعداء المحرض، أو التعجُّل في الأحكام. إذ واجبنا أن ندعو للمخالف بالهداية، وأن نجادله على قدم المساواة، على حد:- {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
وكم تكون المفاهيم الخاطئة للمصطلحات، الإسلامية مُهَيِّجةً للفارغين، والمتسرعين. فبعض الطوائف، والمذاهب تحرّف المصطلحات، وتفرغها من محتوياتها بشكل يستفز البسطاء، والسذج.
ولو أن المهتاجين قرؤوا تاريخ المذاهب الإسلامية، ووقفوا على ضلال الكثير منها، لوطنوا أنفسهم، وعايشوا المخالف بكل هدوء، ورباطة جأش.
ولربما تكون هذه الشطحات من باب ردود الأفعال غير السوية.
فـ[الجهاد] و[التكفير] - على سبيل المثال - مصطلحات إسلامية، لا يجوز الفكاك منها، أو الشك بأهليتها. وإذا فسرتها الفرق الضالة على غير مراد الله، فإن البعض يضيق بها ذرعاً، ويود لو دسها في التراب، أو أمسكها على هون.
وفات هذا الصنف المهتاج بغير حجة أن خطأ الفهم لا يُلغِي المفهوم، وإنما يُلْغي الفهم الخاطئ. بحيث يقر في الأذهان مقاصد الشريعة من المصطلح بضوابطه، ومحققاته.
فالإسلام حين طرح عدداً من المصطلحات شفعها بضوابط، ومقاصد، وشروط، ومحققات. ومن فهمها على غير مراد المشرع، فالواجب رده إلى الفهم السليم:-
وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً
وآفته من الفَهمِ السَّقِيمِ
والمصطلحات الإسلامية قائمة ما قام الإسلام. فهل تُنْفَى صفات الله لمجرد أن بعض المذاهب، أوَّلت، أو عطَّلت، أو شَبَّهت، أو كَيَّفت؟
وهل ننفي [القضاء، والقدر] لأنّ بعض المذاهب أخطأت في فهمه، بين [قدرية] و[جبرية] ويقال مثل ذلك عن الجهاد، والرق، والسَّبْي، والكفر.
وكل وارد على هذه المصطلحات يأخذ منها على قدر فهمه، ومبلغه من العلم. وقد يعميه الهوى، ويُصِمَّه الجهل، ويضله التعصب، فيحرفها عن مواضعها. ولو أنها جاءت كما فهمها هذا الضال المضل، لكنا أول من يطالب بحذفها.
والخطأ الذي لا يغتفر التعامل مع هذا الصنف من الإرهابيين القتلة المتوحشين على أنهم مسلمون، مجتهدون، وأن فهمهم الخاطئ للإسلام يُخَوِّلهم الانتماء إليه.
لقد كنت متردداً في إلحاق ظاهرة الإرهاب المعاصر بظاهرة [الخوارج]. ذلك أن [الخوارج] مع ضلالهم، ودمويتهم، يتوفرون على رؤية، وفكر، وأدبيات، وممارسة ناتجة من ذلك البعد المعرفي. فيما لا نجد لظاهرة الإرهاب الحديث ما نجده عند من سواهم. والضلال في النهاية دركات.
الذين يقتلون غير المحارب في الدين، ليسوا مسلمين، وإن ادعوا ذلك. والذين ليس في رقبتهم بيعة شرعية، يموتون ميتة جاهلية، وقتالهم لا يسمّى جهاداً، وموتاهم لا يسمون شهداء، بل ولا يسمّون فئة باغية، وإنما هم ضالون مضلون.
فالبغي لا يُخْرج من الملة. لقوله تعالى:- {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} والله قد وصف الطائفيين بالإيمان.
ويبقى [الجهاد] ذروة سنام الإسلام بشقية: جهاد الطلب، وجهاد الدفع. ويبقى التكفير، والرق مصطلحات إسلامية بضوابطها، وشروطها. ويبقى الكافر المحارب غير الكافر المسالم.
وتبقى للإنسان حرمته، وكرامته، وأمنه، مسلماً كان، أو كافراً، حتى يقاتلنا في الدين، وحتى يحاول إخراجنا من ديارنا.
فليراجع المجازفون أقوالهم، ولا يتمادوا في الخطأ، متى بان لهم وجه الصواب، ورحم الله من أهدى لنا زلاّتنا.