د. جاسر الحربش
العرب الأوائل من عجائب خلق الله. وجدوا أنفسهم في صحراء قاحلة على تماس مع دول وحضارات أنهار وثمار وأنظمة وجيوش، ومع ذلك استطاعوا الدخول في تنافس جغرافي وفكري وعسكري معها، وحققوا التوازن المطلوب.
لم يعد ابن الحضارة العربية الضاربة في القدم يستطيع التحمل والصمت. منذ الصدام المدمر والغبي في خمسينيات القرن الماضي بين الهويتين التوأمتين، الهوية الإسلامية وهوية الجغرافيا والتراث واللغة، تحول الاعتزاز بالانتساب الحضاري للغة والجغرافيا والتراث الخاص إلى التحقير والقدح والاتهام في نفس المجتمعات.كلمات مثل التيار العروبي أو الانتماء القومي صارت في قاموس الإسلام السياسي رديفا ً للمعصية والخروج عن الجماعة.المصدرون لهذا الحكم، وهم يشكلون كتلة شديدة البأس والقوة والجبروت بين الأربع مائة مليون عربي يغضون الأبصار عمدا ً وبانتهازية سياسية واضحة، عن غياب شيء اسمه جماعة تنتظم كافة المسلمين كمجموعة واحدة.المسلمون في حقيقة الأمر جماعات شتى، أي جماعات مختلفة اللغات والجغرافيا والتراث موزعة بين دول إقليمية لكل منها شعوبها ومصالحها، وأهم من ذلك لها مذاهبها وفرقها ومرجعياتها التي تتقاتل حتى داخل الدولة القطرية الإسلامية الواحدة.
لو عدنا إلى التاريخ لنقرأه بعينين اثنتين ودماغ واحد بدلا ً من عين واحدة ونصف دماغ، لوجدنا أن من قتل من المسلمين على أيدي مسلمين أكثر ممن قتل منهم على أيدي أي ديانة أخرى. نفس النتائج تنطبق على المسيحيين مع بعضهم، فليس هناك جماعة مسيحية واحدة بل انتماءات قومية وثقافية مختلفة، روسية وألمانية وإنجليزية وإسبانية واسكوتلاندية وإيرلاندية وبرتغالية، يعيش بداخلها كاثوليك وبروتستانت وأورثوذوكس وإقليات نصرانية أخرى.في هذه التجمعات البشرية حصل أيضا ً نفس القتل بين مكوناتها القومية التي نسميها نحن العالم المسيحي، وهو في الحقيقة عوالم كثيرة. ربما يشذ اليهود فقط عن القاعدة لأنهم ينظرون إلى دينهم كعرق وإلى عرقهم كدين، بحيث لا يحق لأحد من خارجه الدخول فيه، وهذه نظرة قومية عرقية ليست من الوحي السماوي في شيء.
ليتنا عندما يسفه ويقصي بعضنا البعض ننظر في أحوال الغزاة الذين أكلوا وشربوا وقضوا حاجاتهم في كافة الديار الإسلامية منذ ثلاثة قرون وهم غير مسلمين.الآن الدولة الروسية متصالحة ظرفيا ً مع إيران المسلمة الشيعية ومع النظام الطائفي العلوي في سوريا، ولا يجمع بينهم دين ولا ملة وإنما المصالح.روسيا هذه في حالة عداء قاتل مع أوكرانيا وبولندا وجورجيا، وهذه كلها مجتمعات مسيحية أورثوذوكسية مثل روسيا. ألمانيا ليست مثل بريطانيا في الخبث وأمريكا في العدوانية ضد المجتمعات الأخرى، وفرنسا تبدل مواقفها بسرعات مذهلة، هذه كلها دول مسيحية ولكنها كحضارات ولغات وتراث مختلفة وكانت متعادية إلى منتصف القرن الماضي. الصين وكوريا الشمالية في حالة عداء مع اليابان، بينما كوريا الجنوبية متصالحة معها، وكل هذه المجتمعات اكتسحتها اليابان بنفس العنف بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وارتكبت فيها من الجرائم ما يفوق الخيال.
المقارنات والمقاربات لا تنتهي عبر التاريخ كله، ولكن العامل الواضح الذي ينتظم حلقاته هو الانطلاق المصلحي لكل دولة من هوية الجغرافيا واللغة والتراث. المصالح والغنائم قومية والرايات قد تحمل الصلبان أو النجوم أو الأهلة. ما علينا من الماضي فلنركز على الحاضر. لا توجد دولة على الأرض حالياً تقبل الفصل بين هوية الجغرافيا واللغة والتراث ضد الانتماء الديني أو العقائدي، بسبب إدراك الحاجة إلى الدمج بين الهويتين.العرب فقط يشذون عن هذه القاعدة الجامعة، ربما لأنهم يعتقدون أنهم أذكى من الآخرين مع أن الأرجح هو العكس. أفعال المسلمين العرب ببعضهم في لبنان والعراق وسوريا لا تقارن أهوالها بما لحق بهم من العرب المسيحيين.
بالنسبة لي وبوضوح، العربي النصراني مارون عبود الذي سمى ابنه «محمد» والقس أنستاس الكرملي الذي كان يدعو أفضل القراء لترتيل القرآن الكريم في الكنيسة، وجورجي زيدان الذي كتب أجمل الروايات عن أبطال العرب المسلمين، هؤلاء وغيرهم من أشباههم أطمئن إليهم وأثق بهم أكثر من المحرض المسيس الذي يكفر المرحوم غازي القصيبي وعشرات المثقفين العرب غيره، وهو أفضل عندي من ذلك الداعية الذي يلمز بخبث في سيرة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بعد وفاته، ومن كل أولئك الذين يكفرون ويزندقون بالجملة من يخالفهم في جزئية لا تمس ثوابث النصوص القطعية.
المسألة كلها سياسية مصالح، والسياسية الناجحة هي إدارة شؤون الناس والمعاش بما يجمع بين كل الهويات الفرعية التي لا تتصرف بعدوانية ضد الأخريات. على الإنسان أن يفكر جيداً قبل أن يتبرأ من هوياته الجزئية فقط لأن خطيباً مفوها مسيساً يريد برمجته ليكون في صفه وأداة طيعة للاستخدام ضد مكوناته الانتمائية الأخرى. نحن مسلمون ونحمد الله على ذلك، ولكننا أيضاً عرب، لا عجم وترك وروم.