رمضان جريدي العنزي
دمشق لم تعد دمشق، ولا ياسمينها ياسمين، ولا بردها نهر، ولا قاسيونها قاسيون، ولا قبابها قباب، وحتى هوائها لم يعد يهب ليرقص رائحة العطر من على الشرفات المطلة، القمح خلف التلال لم يعد قمحاً، ولا سنابل الحنطة سنابل، ولا الشمس البتول شمس، لم يعد الغيم هناك غيم، ولا المطر مطر، والأحلام صارت محنطة برمل المواجع، وحتى النساء ذبلن وهن يسورن وحدتهن بالدموع والحداد،
البغيضون يهدمون البيوت، ويرمون الجثث بين الأرصفة، الموت في دمشق صار عالياً، لم يعد الفرح فرحاً، وأجراس الموت تقرع مجلجلة، والمشهد جنائز مفتوحة، وحدها السكاكين تلمع بالدم، والبنادق فاخرة بالذبح، والراجمات جنون، الناس هناك صاروا مثل طرائد تتعثر بظلال الأحراش الكثيفة، الوحوش هناك يرغون مثل بعير تاه عقله، الناس يتلمسون آثارهم بذهول، وأرواحهم معلقة في مخيلة الأسلحة، صارت دمشق دماً وجرحاً وتيه، صارت موغلة بالحزن والوجع، لم تعد أقمارها تضيء للعابرين في الليالي المبهمة، أنهارها لا تفيض، صارت جليد، والمكتبات لم تعد عامرة، بعد أن تجالدت السيوف الظى، والبنادق أصواتها صارت عالية، كانت دمشق ملهمة، أيقونة للحب والعلم، وقوافيها طاغية، وحقولها الشهد والرطب، وحمائمها صادحة، صارت دمشق عليلة، ودائها عضال، معاقة صارت دمشق، كطير كسير الجناح، وكضبية تاهت طريقها نحو جحور الهوام، بغيضون هم من سجنوها، بعد أن كانت طليقة، كانت در بحر، وفيها كنا نسابح، كانت حديقة صباح، وطريق فلاح، وأخضرار عود، ونهر يهذي البطاح، وعطر فاح، ونسيم يغذي الرياح، وشجو يشنف الروح بلا نواح، وحدهم الغرباء دقوا ابوابها بالنفاق والخيانة، ليذيقوها الإهانة، يريدونها ذليلة خاضعة مهانة، بقصد الإساءة، ارتكبوا الآثام الكبيرة، أخذوها عنوة نحو أتون المسيرة، بلا أمانة، امتهنوا إذلالها، بلا حس يعربي ولا أمانة، بعد أن أعملوا سيف هولاكوا في رقاب الناس بلا عدل ولا حصانة، كانت دمش صيرورة ماء، تنداح فوق عشبة، كانت حمامة، كانت عريشة عنب، كانت يمامة، كانت لطيفة، نام الحسن في حضنها، ورقد بين ساعديها الوسن، حتى جاءها القلق، بغيضاً هو القلق، صارت دمشق موتاً، بعد أن كانت صحو، وفلق، ولون شفق، وأحلام مطرزة، وحقل يفيض بالرمان والتين والتوت والتفاح والعنب، دمشق العرب، لا نساوم عليها، لا نساوم عليها دمشق العرب، سيهزم بأرضها الغريب البغيض، واللص والدجال وصاحب اللقب، وستنجو من خسف، ستلبس فساتين العيد، وتغازل الفرح، وستصبح مترعة بالعشب والزهر والمطر، ستزيح لون الرماد، وسيصبح لونها لون قزح، ستصبح أرضها حزمة من أشجار ولون وعطر، ستحذف فصل الخريف من فصولها، ولن تسقط أوراقها أبد، أمضي دمشق لعالم العرب رغم أيادي الذئاب، من يم المواجع، ليم الفرح، أمضي دمشق لحضن العرب، سيخسر بائعوك تيجانهم للأبد، أمضي دمشق، من أرض الأفاعي لأرض العرب، أمضي دمشق من غابة القرووالسناجب والقطط، لخارطة الوطن، أمضي دمشق من عاتية الرياح، وجحيم الحصار والغزاة، ستعبرين هذه الأسوار، والأبواب المغلقة، ستطول ظفيرتك، وسيصبح عنقك مديدا، وحسنك فريدا، سيطول طولك، ويقصر طول الآخرين، أمضي دمشق سيهرب الجنود البغاة، واللصوص الجناة، سيصبح أفقك مرسوماً بلون البيارق، أمضي دمشق سيحمل الأثير تباشير الفرح، أمضي دمشق مهرة جامحة، وفاكهة صيف، وضفاف نهر، أمضي دمشق، استعيري أجنحة الطير، وعانقي آفاق العرب، بعد أن طعن الأغراب فيك الجسد، أمضي دمشق، ورددي أغنية العرب، بلادي بلاد العرب.