د. خيرية السقاف
تعوّد الناس في المجتمع على التعاون بوصفه قيمة سلوكية تنجم عن النُّبل، والتكافل، والمشاركة، يتسع ليشمل الشفاعة، والسعي لتذليل ما يعترض الآخر من صعوبات، ويذلل من معوقات..
لكن الشفاعة تخطّت مفهومها وداخل دورها ما يمس حقوق الآخر، وأصبحت للتعاون وجوه مختلفة بمعنى أنّ كل قيمة مستقلة تفرَّع منها مسالك حادت بها عن جادّتها، وأصبحت ظاهرة أطلق عليها بعضهم «فيتامين واو»، ووسمها آخرون «بالواسطة» فقط..
لقد خاضت الأقلام، وعقدت الحوارات في شؤونها كثيراً، كذلك جيء عنها العديد من المقالات هنا..، وفي ضوء التغيرات التي طرأت بدخول الخدمة الإلكترونية في دوائر العمل المختلفة،
إلاّ أنّ لهذه الظاهرة لا تزال بقايا راسخة تواجهها في أي مكان يتطلب فيه المرء لقضاء أمره الانتقال منه إلى جهة أخرى ذات علاقة، فيطرح عليه السؤال العفوي الناجم عن المتعارف عليه من سلوك: «تعرف أحد هناك»؟!... أي هل لديه من يعرفه ليساعده حيث استقرت حاجته فتقضى له..؟
وغالباً ما يجيء من يبحث عن «معاملته» في جهة ما، وقد استقر قرارها في جهة أخرى، فيوجه لها مع السؤال : «هناك تعرف أحد» ؟
في حين يكون الموظف ذاته الذي وجه السؤال يبذل مجهوده، ويؤدي دوره باجتهاد، وجد، وحرص لمساعدة ذي الحاجة، ولم تكن دافعية سؤاله إلا رغبته الصادقة في إنجاز أمر المراجع.
يتكرر هذا حيث يضطر طالب، وباحث، وصاحب حاجة، ومريض، ومبتعث، ويكون في مواجهة لواقع حاجته لأن يبحث عمن يعرف، أو عن شخص يعرف الذي يعرف ليتم إنجاز أمره بتسريع البت فيه، أو بتذليل الصعوبة التمكن من وضعه، أو بإنجاز المتعثر من مصالح الناس في أي جهة عمل، أو دراسة، أو سفر، أو علاج..!
فمؤسسات المجتمع لا تزال ترزح تحت وطأة عبء التعوُّد، والعبارات المستهلكة للسلوك المستديم، مع أن هناك في الواقع قد تحققت نقلة نوعية واضحة في وعي، وخبرة، ومعرفة الشباب بحيثيات ما يؤدون من عمل بجدية، وتهذيب، وحرص على إنجاز شؤون المراجعين مكاتبهم في المؤسسات المختلفة بما تلقوه من الخبرات المعرفية، والتدريب يتفق وخصائص وظائفهم، إلاّ أنه مع كل هذا، ومع هيمنة التعامل الإلكتروني في الشؤون التنفيذية، وإجراءاته النظامية، تظل الملاحظة حيث يذهب الفرد من أجل حاجة يضطرون لإحالة المراجع بعبارة « هناك تعرف أحد» ولسان حالهم : لو كان الأمر بيدي لأنجزت أمرك بلا تردد...!
إنّ جيل الشباب الجديد من الموظفين، والمستقبلين، والقائمين على أعمالهم ذات العلاقة بمن يرتبط بها من أولئك في جميع المؤسسات وهم على ماهم من الدرجة العالية من الوعي، والتهذيب، والجدية، والحرص على أداء أدوارهم، لا ينقصهم إلاّ أن تمنح لهم صلاحيات الإنجاز، فبهممهم يؤكدون أنهم مؤهلون لقضاء حاجات المراجعين دون الحاجة لانتظار من تتوقف مصالح أولئك عنده، حتى يجد من يعرفه، ليختصر له جهد المراجعة، ويوفر عليه استطالة الوقت حتى يتمكن من بلوغ مقصده، وإنهاء أمره .
فجهة واحدة، لدى موظف واحد من هؤلاء، في مكان واحد من دائرة العمل، مع برمجة إلكترونية دقيقة، ونظام متابعة آلي، وبتحديث مستديم لكل ما يخص المراجع، من شأنه أن يبدد جهد المراجعين لإنجاز حاجاتهم، ويمكِّن المجتهدين في مكاتبهم ويوطد ثقتهم في أنفسهم، ويزيد حماسهم للابتكار في طرق إنجاز مهامهم، ويقنن في الوقت ذاته جهة واحدة للمراجعين أنفسهم. ولا يدعو أحداً لأن يسأل: « تعرف أحد»، ولا يربك أحداً أن يجيب أنه لا يعرف أحداً، بل يكون هذا الأحد هو ذاته الموظف الذي في واجهة مكتب المراجعة، في الجهة المعنية بأمرهم، القادر على إنجاز حاجاتهم دون مماطلة.