د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا بدّ أن يكون النظام الصحي كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وهذا المقال محاولة لتأكيد ذلك. إن من تحصيل الحاصل القول بأن تبعثر الخدمات وازدواجيتها يرهق الموارد المالية للدولة وللمجتمع. فإن كل مرفق خدميّ - سواءً كان ذا حجم صغير أو كبير
يتطلّب موارد خاصة به، وكلّما كان المرفق صغيراً زادت تكلفة وحدة الخدمة فيه -مثل تكلفة الزيارة.
أتذكّر من بحث أجرته وزارة الصحة بالتعاون مع جامعة الملك سعود قبل (28) سنة أن تكلفة الزيارة الواحدة لمركز صحي بسيط بلغت ضعف تكلفة الزيارة بالعيادات الخارجية في مستشفي الرياض المركزي بأعدادها الكبيرة من أطباء العموم والإخصائيين وأقسام المختبر والأشعة والصيدلية والضماد. وفي جانب تكرار الخدمات فإن الوحدات الصحية المدرسية التابعة لوزارة التعليم كانت تقدّم خدمات علاجية مماثلة لما تقدمه المراكز الصحية في وزارة الصحة المنتشرة في أحياء المدن والقرى لسائر المواطنين بمن فيهم من طلاب ومعلمين.
ومن حسن التدبير أن القياديين في الوزارتين اتفقوا قبل عدة سنوات على إلحاق الخدمات العلاجية في الخدمات الصحية المدرسية بوزارة الصحة لكي تركز الصحة المدرسية على الجانب الوقائي والتربوي. ونرى كذلك ازدواجية الخدمات وتكرار الإنفاق في خدمات حكومية أخرى .. فالمستشفيات الجامعية تتحمل تكلفة الرعاية الصحية المجانية التي تقدمها لأعداد كبيرة من المراجعين الذين يقومون أيضاً بمراجعة مرافق وزارة الصحة أو المرافق الصحية بالجهات التي ينتسبون لها (القطاع العسكري أو الشركات) - أي أن الإنفاق هنا يتكرّر لأن تكلفة علاجهم محسوبة ضمناً في ميزانيات تلك الجهات.
وفي المرافق الصحية الخاصة أيضاً يتكرّر الإنفاق، والفرق هو أنها تأخذ التكلفة من المراجع نفسه أو شركة التأمين.. من الناحية النظرية -على الأقل- يستطيع المواطن في مدينة ما أن يحصل على الرعاية الصحية لعلّة مزمنة مثلاً من ثلاثة قطاعات صحية مختلفة بحيث يتكرّر الملف المرضي ثلاث مرات والتكلفة ثلاث مرات. وبصرف النظر عن أسلوب التمويل (اعتمادات ميزانية، تأمين، دفع مباشر) فالمحصّلة العامة هي أن الإنفاق الصحيّ على هذا النحو يتضخّم لتغطية تكاليف خدمات متكرّرة (تكلفة ضائعة!)، كان يمكن صرفها لصالح خدمات أجود.
إن تنظيم استخدام مرافق الجهات المقدمة للرعاية الصحية بحيث لا يتكرّر الملف ممكن جزئياً من خلال تطبيق برنامج الملف الصحي الإلكتروني الموحد الذي يتمّ تطويره في الوقت الحاضر على مستوى مستشفيات مرجعية. لكن تنظيم حق الاستخدام بصورة تكفل ضبط التكلفة وتحديد الأحقية الأهلية (Eligibility) واتباع أساليب التمويل وطرق الدفع الأنسب إنما يتحقّق في إطار نظام وطني للرعاية الصحية، (أشرت لهذا في المقال المنشور بصحيفة الجزيرة في 3-1-1437هـ). ما يهمّ هنا هو الحديث عن نماذج توضح أن ترشيد الإنفاق يمكن أن يؤدى إلى خفض في تكلفة خدمات مكرّرة (مزدوجه) يستفاد منه في تطوير أو إضافة خدمات أخرى، ومن ثَمّ في رفع مستوى الرعاية الصحية. وقد سبق ذكر التكلفة المرتفعة للزيارة الواحدة في المراكز الصحية الصغيرة مع تواضع خدماتها؛ فلو تمّ توحيد مراكز صحية متقاربة في مركز صحي أكبر، فإن ذلك يخفض عدد القوى العاملة وإيجارات المباني، ممّا يسمح بتطوير الإمكانات لتقديم خدمة نوعية أفضل لعدد أكبر من المراجعين.
أمّا نقل الخدمات العلاجية من الصحة المدرسية إلى وزارة الصحة فإنه يُثمر وفراً في الاعتمادات المالية يُوجّه لدعم الجانب الوقائي والتربوي في الصحة المدرسية، ويتيح نقل الوظائف العلاجية إلى وزارة الصحة. هذا النموذج من ترشيد الإنفاق ليس قاصراً على مستوى الرعاية الصحية الأولية، بل هو على مستوى المستشفيات أبلغ وأشدّ تأثيراً -لا سيّما أن التكاليف الكلّية عالية والكفاءات المتخصصة شحيحة. لذلك فإن الازدواجية في خدمات المستشفيات المتكرّرة بين جهتين صحّيتين في مدن غير آهلة بالسكان لا يوجد ما يبرّرها إذا كان مجموع عدد الأسرة يزيد كثيراً عن المعدل المناسب، إذ سيكون مقدار التكلفة الضائعة والموارد المهدرة كبيراً. ونجد لذلك مثالاً في مدينتين لا نسمّيهما لأنهما لا ينفردان بهذه الازدواجية، فهي توجد في غيرهما. الأولى سكانها (150000) نسمة وهي عاصمة منطقة ليست كبيرة، عدد سكانها (440000) نسمة ( تعداد 1431هـ). فيها مستشفي عام حديث سعته (300) سرير ومدينة طبية تحت الإنشاء بسعة (1000) سرير محتوية على كل التخصصات الطبية، وكلاهما يتبع وزارة الصحة. وفيها كلّية طب اعتمد لها إنشاء مستشفي بسعة (400) سرير. من المؤكد أن وزارة التعليم ستوفر كل تكلفة الإنشاء وبعض تكلفة التشغيل، لو اتفقت مع وزارة الصحة على المشاركة في تحمّل تكاليف تشغيل المدينة الطبية من خلال توجيه أعضاء هيئة التدريس للعمل بها لتصبح مستشفيً تعليمياً مرجعياً للمنطقة متكامل الخدمات والإمكانيات.. الثانية هي مدينة أخرى سكانها (47000) نسمة وهي عاصمة المحافظة التي يبلغ سكانها. (133000) نسمة (تعداد 1431هـ). فيها لوزارة الصحة مستشفي سعته (200) سرير أنشئ قبل ثلاثين عاماً، واعتمد لها إنشاء مستشفي جديد بسعة (300) سرير - لا يزال على الورق. ويتبع وزارة التعليم كلية للطب اعتمد لها إنشاء مستشفي بسعة (400) سرير أيضاً لا يزال على الورق.
كلتا الوزارتين يمكنهما أن تكسبا توفيراً في تكاليف الإنشاء والتشغيل وفي أعداد القوى العاملة لو قرّرتا دمج المشروعين في مشروع مستشفي واحد سعته (500) سرير، يكون بمثابة مستشفي تعليمي ذي طاقة استيعابية كبيرة وكفاءة عالية، يعمل به أعضاء هيئة التدريس ويخدم المحافظة وما حولها؛ وتكتفي وزارة الصحة بتطوير المستشفي القائم - كما هو المقرّر فعلاً - وتوسعته بمائة سرير ليقدّم خدماته بأداء أفضل.
في هذين المثالين -كما هو واضح- يتمّ ترشيد الجهد والإنفاق والموارد البشرية الشحيحة ويتّمّ التركيز -في مقابل ذلك - على الخدمة المتميزة. لا شك أن دمج مشروعين مرتبطين بجهتين مختلفتين في مشروع واحد يتطلّب جهداً كبيراً لتوحيد الإدارة ونظم العمل ولتنظيم حق الاستخدام والإحالة، ولذلك فمن الضروري أن يتمّ تقييم تجربة مستشفي عسير المركزى لتلافي تكرار المشكلات. ولكن الأهمّ من ذلك هو التغلّب على النزعة الانفرادية والمظهرية لدى الجهتين، وإقناع الأهالي بأن دمج بعض المرافق لا يعني تقليل الخدمة، بل تحسينها.
أخيراً نقول إن ما سبق ذكره هو عرض لأمثلة التكاتف في القطاع الصحي الحكومي الذي يحقق هدفاً عاماً هو ترشيد الإنفاق وتحسين الجودة. لكن التكاتف يجب أن يتعدّى ذلك ليشمل القطاع الصحي الخاص. وقد يكون أسلوب التأمين الشامل وارتكاز نظام الرعاية الصحية على قاعدة طبيب الأسرة هما الإطار الأنسب لتكاتف جميع القطاعات الصحية الذي يحقق المرونة في استخدام المرافق الصحية والإحالة منها وإليها ويضمن بذلك حق الحصول على الرعاية الصحية.