د. عبدالرحمن محمد السلطان
كتبت قبل فترة عن كون النموذج الإماراتي المتمثل في رفع أسعار الطاقة لتصل إلى معدلاتها العالمية خيار لا يناسبنا في ظل التدني الشديد الحالي في أسعار مصادر الطاقة في المملكة، الذي يجعل الرفع المطلوب في أسعار مختلف مصادر الطاقة وفي كافة القطاعات كبيرًا جدًا لا يجدي معه أي رفع تدريجي، حيث سيكون الرفع التدريجي ضروريًا إن كنا سنطبق النموذج الإماراتي. فارتفاع استهلاك مصادر الطاقة في المملكة الذي وصل الآن إلى حوالي 5 ملايين برميل نفط مكافئ أو حوالي 40 في المائة من إنتاجنا من مصادر الطاقة الأولية يعني أنه ليس لدينا الكثير من الوقت لنضيعه قبل تحقيق تحسين كبير في كفاءة استخدامنا لمصادر الطاقة وخفض كبير في إجمالي استهلاكنا وأنه يلزم أن يتحقق كل ذلك بأقصى سرعة ممكنة وليس على مدى سنين عديدة أو عقود.
فنلندا أعلنت الأسبوع الماضي أنها بصدد إقرار خطة سيتم بموجبها صرف دخل أساسي basic income لكل مواطن قدره 800 يورو شهريًا، أي ما يعادل 3.300 ريال شهريًا، مقابل إلغاء مختلف برامج الدعم الحكومية، التي تشمل برامج من بينها إعانة العاطلين والدعم السكني ومعونة الأطفال والطلاب وبرامج دعم أخرى، وذكرت أنها بعد دراسات مستفيضة للخطة توصلت إلى أن ذلك سيكون أجدى من استمرار برامج الدعم الحكومي، وفي استفتاء قامت به الجهة الحكومية المسؤولة عن إعداد هذه الخطة اتضح أن 69 في المائة من الفنلنديين يؤيدونها، وهناك خطط مشابهة تجري دراستها بجدية في بلدان أوروبية أخرى من بينها هولندا وسويسرا.
وفق الأسلوب نفسه فإن المملكة يمكن أن تلغي كافة أشكال الدعم الحكومي السلعي ليس فقط في قطاع الطاقة وإنما حتى لسلع أخرى كالماء والدقيق مثلاً، وليس في القطاع السكني فقط وإنما في كافة القطاعات بما في ذلك القطاع الصناعي، بما يوصل أسعار تلك السلع فورًا لمعدلاتها العالمية. ومقابل ذلك يصرف مبلغ نقدي شهري لكل رب أسرة بحسب عدد أفراد أسرته، ولبعض منشآت القطاع الصناعي وفق معايير استحقاق معينة، يمول من الإيرادات الإضافية التي ستحققها الدولة من رفع أسعار تلك السلع، فينتهي تمامًا وبشكل فوري دعم أسعار السلع في المملكة ويتحول الدعم إلى دعم للمستهلكين أنفسهم. ثم سنويًا، وبشكل تدريجي، يخفض التحويل النقدي بحيث يتلاشى تمامًا خلال مدة عشرة أو خمسة عشر عامًا، بحسب المدة التي تراها الدولة مناسبة للتكيف مع الأسعار الجديدة، فنكون قد حققنا تحريرًا كاملاً لأسعار كافة السلع محليًا بشك فوري مع توفير حماية للمستهلكين في كافة القطاعات لفترة تمكنهم من التكيف التدريجي مع الأسعار الجديدة المرتفعة لتلك السلع.
هذا المقترح يتميز على أي مقترح آخر لا يشتمل على تحويل نقدي ويستهدف رفع الدعم الحكومي تدريجيًا في ثلاث نقاط في غاية الأهمية:
1. أن الرفع الفوري وبنسب عالية لأسعار مختلف السلع المدعومة يضمن حدوث تراجع كبير في الطلب عليها مباشرة، وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال رفع تدريجي في الأسعار. من ثم ستزداد قدرتنا التصديرية في مجال مصادر الطاقة فورًا، كما سيتم تفادي جزء كبير من متطلبات نمو الإنفاق الحكومي لمواجهة الزيادة في الطلب على السلع المدعومة مع تراجع معدلات استهلاكها.
2. كون المقيمين الأجانب الذين يشكلون حوالي نصف سكان المملكة لن يشملهم برنامج التحويل النقدي يعني أنه سيترتب على هذا البرنامج ارتفاع كبير ومباشر في تكلفة معيشتهم ما يضطر مشغليهم إلى زيادة أجورهم بشكل كبير يفقدهم فورًا الميزة النسبية التي يتمتعون بها على العمالة المواطنة، والمتمثلة في تدني تكلفة توظيفهم، ما يجعل القطاع الخاص أكثر استعدادًا لتوظيف حقيقي للعمالة المواطنة لا توظيف وهمي كما هو حاليًا.
3. أيضًا فإن ارتفاع نسبة المقيمين وكون معظم منشآت القطاع الخاص لن تكون مستحقة لأي تحويل نقدي يعني أن الحكومة لن تكون مضطرة لتحويل كامل الإيرادات الإضافية المحققة. لذا سيكون لهذا المقترح أثر إيجابي سريع ومباشر على ميزانية الدولة، بما يفوق أي أثر مالي يمكن تحقيقه من خلال رفع تدريجي لأسعار السلع المدعومة، وسيكون هناك تحسن سنوي مستمر في هذا الأثر الإيجابي مع التخفيض التدريجي في مبلغ التحويل النقدي للمستهلكين.