رمضان جريدي العنزي
بيروت قلب الأرض كانت، حلقة الوصل بين الحب ومنازل الضوء وقاموس الحياة، بيروت جذر المعاني كانت، برق الغمام وسقف السحاب وأفق اليمام، أرضها وليدة تحمل الخير الوفير، ونهرها ينهمر من عمق الأزل، يا بيروت الجميلة، يا حسناء، يا فيروز، يا التاريخ، يا أعمدة الرومان، يا الميناء،
يا الروشن، يا جسر اللوزية، يا الأرض البكر الغنيمة، يا التي توقظ النائم من عمق الوسن، يا عشبة ندية، يا إيوان الغيوم، يا زيتونة بهية، يا حفنة من نور قمر، يا مدينة أنيقة، كيف صرتِ يا ترياق مقبرة؟ كيف إنسل من عندك النهار؟ كيف أسمعوك يا سديم العزاء قبل إعلان الهزيمة؟ كيف كسروا ضلوعك الهمج؟ يا مدينة السلال، وعروش الكروم، وولادة الفصول، يا حقول السنابل، وممرات الجداول، يا أرض العشب يرتجف حينما يمر عليها الندى كنسمة الصبح النقية، يا فرعاء شعرها منساب مثل تماوج الغدران في مسرى الصخور، يا غابة تتفجر منها الحياة، كيف شيد الغزاة على أبوابك الموت الزؤام؟ كيف نثروا على وجهك الظلام؟ كيف جعلوك أسيرة؟ يا الطفلة، يا ينابيع المياه، يا أرجوان السهوب، يا أرض البهاء والجمال والحياة، كيف جعلوك الوحوش كسيرة؟ كيف نشروا على أصقاعك ليل الوباء؟ ونفخوا في أرضك جمر الحريق؟ وأحرقوا فيك الحقول؟ وحاولوا تركيع أشجار الأرز؟ كيف صادروا أصوات عصافيرك الندية؟ كيف غيروا مجرى الجداول والسواقي في أرضك البتول؟ كيف جاؤوا بالعتمة وأغلقوا شبابيك الضياء؟ ذئاب مسعورة يتبعها قطيع ضباع؟ تحاول قتل جميع الورود، وتحرم العشب من لقيا الندى، وتذبح نفحة العبق المشبع بالأريج، يا بيروت يا سر الهدوء، يا طير وروار يعشق الهديل، يا غيم يجيء من خلف التلال، ليسعف إكليل الزهور، يا رعشة الهواء العليل، يا وهج النشيد، يا أبعاد اللغة، في معاجم الحب العتيق، يا شجرة التوت، والحنطة، والدراق، والياسمين، يا عش الدوري، وبيت الحجل، يريدك الغرباء حرباً أتونها الرماد، وركام حديد، وأرض سماد، وفصيل جماجم وعظام، والملح يعلو في زوايا الجرح الأليم، ثعابين الهلاك يا بهية يريدونك مثل دمل على جرح قديم، وليل أرق، وهاجس أسى وأنين، يريدون فيك الظلام واللعنة والتعب، يريدون أن يكسروا فيك المهابة، ولون القيح، وأصوات البشاعة، لا يريدون للغيمة فيك أن تعلو فوق مفاوز الغيمة، ولا الشعر ولا الحكمة، ولا الروح ولا النجمة، ولا البذرة أن تلد ألف بذرة، لكن لن يتعبوك يا حرة، وستبقين في أفواههم مرة، وستصبحين شوكاً على مسراهم، وزواياك زجاج، أتعبيهم في صمودك، دقي على أبوابك ألف مسار، أغرقيهم في بحارك، أسلميهم للمتاهة والسراب، خيبي رغباتهم الشقية، كوني مثل حمام يحوم، الشمس أنت والقمر، والظلام هم، يتناسلون فيه مثل نمل وجراد، علميهم معنى التجذر في أرض العرب، قولي لهم كلماجف فيك ينبوع، جاءك ينبوع من العرب، هم الغرباء التتر تاريخهم رماد، سيوفهم لها أغمدة مكسوة بجراب الدم والخديعة والنفاق، مشبعين بالسواد، ويعشقون الحرائق والرماد، أبحثي يا جميلة بين فساتينك، على فستان للفرح، لونك الشاحب لا يجوز أن يكون على وجه جميلة، دعي عيونك تغازل الأراجيح، مثل طفل همه اللعب والفرح، أخبريهم أنك مثل نهر يمنح الناظر حنينه، بيروت يا بيروت لا يكون وجهك خشب، ويصيبك التعب، كوني مثل أرض مترعة بالمطر، ولونك لون الأرجوان، كوني غيم، كوني أفق، كوني ربيع يبسط عشبه لكل أحد، بيروت يا بيروت، لا تجعلي أقدام الغزاة تطأ جزءا من أرض العرب، هي الوصية فاحفظيها يا جزء العرب، فلا بد للحق أن يزهو وينتصر، ويزول البغي ويندثر، ولن تكوني بعدها ذليلة، أو رهينة للحفر، بعد أن يزول الحيف، والظلم ينتحر.