د.خالد بن صالح المنيف
في دولة خليجية مجاورة سألت سائق تاكسي آسيوي عن سر ذلك الانضباط الشديد في السلوك من قبل المقيمين في هذه الدولة؟ وما هو سبب التزامهم بالطريق السوي؟ فلا تكاد تجد أحداً يتجاوز السرعة أو يقطع إشارة أو يتشاجر! فقال: إن السر يكمن في عدم التسامح مع الخطأ الصغير من قبل الأجهزة الأمنية لذا لن تجد من يفكر باقتراف طوام الأمور!
تركته صغيراً!
وتذكرت قصة ذلك الشاب الذي حكم عليه بالإعدام بجرم السطو المسلح، وهي جريمة مركبة تحوي سرقة وترويعاً؛ لذا فعقابها كبير، وقبل تنفيد حكم الإعدام سُئل الشاب: إن كان يريد شيئاً قبل تنفيذ الحكم! فطلب الحديث مع أمه، وعندما حضرت الأم طلب منها الاقتراب؛ فلما اقتربت عض أذنها حتى قطعها بين صياحها وصراخ الناس! وبعد توبيخ من الشرطة سئل عن السبب فرد برد عجيب فقال: عندما سرقت لعبة أخي وأنا صغير لم تعاقبني، حتى تعودت وتطور مع الأمر ووصلت إلى ما وصلت إليه!
النظرية العجيبة!
ومعه تذكرت نظرية للعالم في علم الجريمة (جورج كلينج) اسماها نظرية (النوافذ المكسورة) وتتحدث النظرية على أن التسيب والانفلات الأمني ثمرة للفوضى وعدم الاعتناء بالأمور الصغيرة، فقال: إن وجود نافذة مكسورة في شارع دون إصلاح لفترة طويلة سيولد قناعة على أن المكان والشارع غير معتنى بهما وغير خاضع للمتابعة الأمنية، وهو ما سيجعل المجرمين يتجرؤون على النيل من باقي النوافذ والعبث بالبيوت المجاورة! وهذا في الحقيقة لا يقتصر على النوافذ بل في كل مناحي الحياة! وقد كانت بداية تطبيق هذه النظرية في نيويورك عندما ارتفع منسوب الجرائم في محطات القطار في مطلع الثمانينات، ثم انخفض بنسبة 75% في التسعينات وأصابع اللحظ تشير على أن لنظرية النوافذ المكسورة الفضل في انحسار النسبة، وتبدأ القصة عندما عين قطاع المواصلات ويليام براتون ليرأس شرطة المواصلات، وكان رجلاً مؤمناً بنظرية النوافذ المحطمة، الذي قرر البدء بالقضاء على ظاهرة التهرب من دفع قيمة التذاكر، لأنه رأى فيها أنها الفيروس حامل العدوى، بدأ ويليام فوجد أنه عند قيام بعض الركاب بالتهرب من دفع النقود، فسيبدأ الآخرون في التقليد وعدم الدفع، وتمت الخطة الأمنية بانتشار عشرات من رجال الشرطة المتنكرين، بدأوا في المحطات ذات أعلى نسب تهرب، حيث كانوا يقبضون على المتهربين واحداً تلو الآخر، ثم يكبلوهم بالأصفاد خلف ظهورهم، ويجعلونهم يقفون في طابور على المحطة، ليراهم الجميع بعد فترة، بدأ رجال العصابات يتوقفون عن التهرب من دفع تذاكر الركوب، وبدأوا يتركون أسلحتهم وراءهم قبل ركوب القطارات. تحول رجال ويليام للجرائم الأخرى مثل ركوب القطارات تحت تأثير الخمور والمخدرات، ومنها إلى من يقضون حاجتهم جهاراً نهاراً، وسر نجاحهم هنا يكمن في كونهم ركزوا على الصغائر والدقائق؛ فكبحوا جماح الكبائر والجلائل! وجوهر نظرية (النوافذ المكسورة) هو: أن إهمال الأشياء الصغيرة والتساهل فيها جزماً سيؤدي إلى ما هو أعظم والعكس الصحيح أن التعامل بجدية وصرامة مع دقائق الأمور سيحول دون تطورها.
وقفة!
في مجال علاقة الإنسان بربه، الإنسان في حياته إذا ما تساهل بالصغائر وتهاون فيها؛ فهي تمهد الطريق نحو الطوام وتيسر الدرب نحو الكبائر، وفي المقابل فإن اهتمام الإنسان بالنوافل يجعل منها خط دفاع قوي ومتماسك ويجعله لا يفكر في التهاون في الفروض!
وأجزم أن ما نراه في مجتمعنا من ظواهر سلبية تتزايد يوماً بعد يوم كتخريب الممتلكات العامة والسرعة القاتلة، والتهاون بأرواح البشر، والاعتداء على الحكام في الملاعب، والسرقات في وضح النهار، والاعتداء على المعلمين، والنيل من الرموز، والعنصرية والعصبية، ووصولا إلى التعرض للثوابت الدينية والوطنية أحسب أنها نتائج للتساهل في أمور أصغر والتهاون في البدايات وعدم الردع المبكر و معها زال الخوف وتلاشت الرهبة وضعفت الهيبة وجرأت ضعاف النفوس على تلك العظائم.
ومضة قلم:
لا تؤجل حل المشكلات التي قد تعاني منها فالتراكم يؤدي إلى تصعيد هذه المشكلات!