د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي
بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه، ثم بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية بالقاهرة، تم إصدار كتاب البحر المحيط في تفسير القرآن الكريم، لأثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، المتوفى سنة745هـ، في طبعة جديدة وحلة قشيبة، بلغت مجلداته ستة وعشرين خصص الأخير منها للفهارس.
وأبو حيان هو البحر العلامة، النحوي المقرئ، أثير الدين، أبو عبد الله، محمد بن يوسف الأندلسي الجَيَّاني.
ولد في غرناطة سنة 654هـ، ونشأ بها نشأة علمية، وتلقى الكثير عن شيوخها، ثم قدم الإسكندرية، فقرأ بها علم القراءات على شيوخها، وبلغت مشيخته فيما ذكر عن نفسه، أربع مائة وخمسين شيخاً، غير الذين أجازوه.
قال عنه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة(6/59): كان كثير النظم من الأشعار والموشحات، وكان ثبتاً فيما ينقله، عارفاً باللغة.
وأما النحو والتصريف، فهو الإمام المطلق فيهما، خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يذكر أحد في أقطار الأرض فيهما غيره.
وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم.
أنتج أبو حيان إنتاجاً غزيراً في فنون شتى، أنافت مؤلفاته على خمسين كتاباً، ذاع صيتها وانتشرت في حياته، وتلقاها الناس عنه بالقبول والرضا.
وأبرز هذه المؤلفات وغرتها تفسيره الذي يعد أحد التفاسير الجامعة الحافلة، وهو محطّ أنظار أهل العلم بعامة، وأهل العربية بخاصة، غلب عليه الاهتمام بالجوانب النحوية والوجوه الإعرابية والصرفية والبيانية، فهو من أجمع التفاسير التي نحت هذا المنحى وأوعاها.
وقد أعرب القرآن إعراباً كاملاً، ألفاظاً وتراكيب، جرده من الأصل الدكتور ياسين جاسم المحيميد، في كتاب سماه: الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط.
وأبو حيان إذا تكلم في مسائل النحو، فهو ابن بجدتها وأبو عذرتها، وفارس حلبتها، وله في تفسيره استطرادات وبحوث مستوفاة في بعض المسائل النحوية ذات الصلة التطبيقية بآيات الكتاب العزيز، بسط فيها الخلاف بين أئمة هذا الفن من الكوفيين والبصريين، حتى غالى بعض الناس فقالوا في تفسيره هذا: إنه أقرب إلى أن يكون كتاب نحو منه إلى أن يكون كتاب تفسير، غير أن الدارس المنصف للكتاب يجد المؤلف لم يخرج عن موضوعات التفسير الجوهرية، كبيان معاني القرآن وتجلية ما استشكل منها، وذكر ما يتصل بذلك ويتممه من ذكر أسباب النزول، وبيان الناسخ والمنسوخ، والتعرض للقراءات وتوجيهاتها في متواترها وشاذها، واستخراج ما اشتملت عليه الآيات البينات من المواعظ والآداب والحكم والفقهيات، وقد أبان المؤلف عن ذلك في المقدمة.
عاش أبو حيان رحمه الله في عصر كان علم التفسير قد استوفى حظاً وافراً من العناية والاهتمام، وتكاملت مكتبته بألوانها المختلفة من النزعات والاتجاهات وقد حفل بدراستها وعرض نماذج من كل منها، محمد حسين الذهبي رحمه الله.
فلك أيها القارئُ للبحر المحيط أن تتصور ما توفر لدى مؤلفه من تلك المكتبة حين عزم على تأليفه وهو على مشارف العقد السادس من عمره، لقد استوطن مصر التي لا تخفى منزلتها في التوفر على المكتبات والكتب، على أنه لم يفصح في مقدمته الضافية عن مصادر استمداده، إلا بذكر ثلاثة مصنفين:
الأول: ابن النقيب البلخي المقدسي الحنفي(ت698هـ)؛ وقد أفاد منه في كتابه ما بينه بقوله: واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا، على كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير، من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب، جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي، عُرف بابن النقيب، رحمه الله تعالى، إذ هو أكبر كتاب رأيناه صُنف في علم التفسير، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد.
والآخران: أبو القاسم الزمخشري(538هـ) وأبو محمد ابن عطية الغرناطي(541هـ)، وقد أثنى عليهما في المقدمة ثناء بالغاً، وعدهما فارسي علم التفسير وممارسي تحريره وتحبيره، وعد تفسيريهما غرتين في الكتب المصنفة في هذا الفن، واستكثر من النقل عنهما، ولاسيما في وجوه الإعراب ومسائل النحو، لكنه لم ينقل عنهما نقل تقليد وتسليم، بل نقل متبصر ناقد، يقبل ما يراه صواباً، ويرد ما يراه خطأ، وكاد تلميذه ابن مكتوم يقتصر في اختصاره لتفسيره، على مباحثاته مع ابن عطية والزمخشري.
وحمل أبو حيان حملات قاسية على جار الله، في آرائه الاعتزالية التي بثها في تفسيره، وذلك لم يمنعه من الاعتراف له بالبراعة وبُعد الشأو في تجلية بلاغة القرآن وقوة بيانه.
قدم أبو حيان رحمه الله للبحر المحيط بمقدمة قيمة ضافية، بين فيها المنهج الذي سلكه في تفسير الآيات، وذلك عند قوله: وترتيبي في هذا الكتاب، أني أبتدئ أولاً بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها، لفظة لفظة، فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب...الخ.
وعرض للكلام على التفسير بالمأثور، منكراً على من زعم أن التفسير لا يجوز أن يخرج عنه، ومبيناً أن الاقتصار عليه لا يفي بالغرض المطلوب لمريد فهم كلام الله تعالى، وأن الباحث لا ينال بغيته من بيان آي الذكر الحكيم، إلا بضميمة إعمال آلة البحث والنظر في مجموعة من العلوم المساعدة على فهم الكلام، كعلوم اللغة من النحو والصرف والبيان والبديع، وعلم الحديث، وأصول الفقه، والتوحيد، والقراءات، وأن التمكن من تلك العلوم وتحصيل الزاد الكافي فيها، شرط من شروط اقتحام باب تفسير كلام الله تعالى.
حظي الكتاب باهتمام أهل العلم وطلبته قديماً وحديثاً، وتناولته الدراسات من جوانب عديدة. ذكر العديد منها في مقدمة هذه الطبعة.
وطبع قديماً(عام1909م) في مطبعة السعادة بالقاهرة، في ثمانية أسفار كبار، وبهامشه مختصره المسمى الدر اللقيط من البحر المحيط، لتلميذه تاج الدين أحمد بن عبد القادر ابن مكتوم(ت749هـ)، ثم طبع في دار الفكر(عام1983م) وبهامشه كتابان: أحدهما: الدر اللقيط، والآخر: النهر الماد من البحر، وهو تفسير مختصر لأبي حيان نفسه، ونشرته مكتبة الرياض الحديثة مصوراً عن طبعة دار الفكر. ونشر الكتاب في دار الكتب العلمية (عام1993م) وفي دار إحياء التراث العربي (عام2002م).
وعلى الرغم من أهمية الكتاب وقيمته العلمية المتميزة، وتفرده في الاهتمام بالجوانب النحوية والإعرابية، فإنه لم يحظ بعناية تليق بقدره وتفي بحقه تحقيقاً وتوثيقاً، مما حرك العزم على أداء هذا الواجب واستدراك هذا النقص، وإصدار الكتاب في نشرة جديدة وحلة قشيبة، بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، ذي الخبرة الثرة في تحقيق كتب التراث الإسلامي، فتم جمع ما تيسر من أصوله الخطية من مختلف خزائن العالم، تم على ضوئها ضبط النص وتخليصه من الاختلال، وتحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً متقناً، وفق الأصول المتعبة في هذه الصنعة، ولم يقتصر العمل على العزو والتخريج وتفسير الغريب وتراجم الأعلام، بل شمل التعليق بما يناسب في مواضع من الكتاب، لإزالة إشكالات في التعبير، أو التنبيه على بعض الأوهام، أو استدراكاً على المؤلف في بعض القضايا العقدية التي لا يقر عليها، أو لغير ذلك من الأسباب. وليس في هذا غضاضة من قدر المؤلف، ولا من كتابه الحافل بالعلوم التي بثها فيه، وإنما هو تعامل بوعي وسعة نظر مع تراث الأمة، فإنه وإن كان مستودعاً لعلم جم في علوم الشرع وما يتصل به من اللغة والتاريخ ونحو ذلك، فهو جهد بشري يعتريه من الهفوات والقصور، ما يجدر معه بالمشتغلين بالتحقيق العلمي، أن ينبهوا عليه ويستدركوه، مع مراعاة الأدب، والأمانة العلمية التي توجب صيانة نصوص المؤلفين من التصرف بالحذف أو التغيير.
ومن توفيق الله تعالى وحسن عونه في الوفاء بما يستحقه هذا الكتاب الجليل من الخدمة العلمية، أن سخر للنفقة عليه والاهتمام به ذا اليد السخية صاحب السمو الملكي، الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود، رحمه الله وأجزل له المثوبة، على جهوده في دعم خدمة التراث الإسلامي بعامة، وعلى وجه الخصوص ما له تعلق بعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
لقد كان مشجعاً وقوي الاهتمام بالجهود المبذولة في هذا المجال، ولما عرضت على سموه فكرة إصدار هذا الكتاب، أبدى من الترحيب والتشجيع ما يثلج الصدر، وتحمل نفقات الطباعة والتوزيع للكتاب على طلاب العلم.
ولما وافته المنية، رحمه الله، قام مقامه ابنه البار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية، واهتم بإصدار هذا الكتاب المتميز. وليس هذا أمراً غريباً في شأن سموه الكريم، فإنه يسير على درب والده وجده، والعديد من هذه الأسرة الكريمة، والدوحة المباركة، التي أبلت في خدمة الإسلام والمسلميـن بلاء حسناً، وبـذل قادتها في ذلك بذلاً كبيراً، منذ عهد مؤسس المملكة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله، إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ونصر به دينه، الذي يبذل جهوداً عظيمة في خدمة الدين والوطن والمواطنين، وعامة المسلمين، فجزاه الله خير الجزاء.
والدعاء مني ورجائي من طلاب العلم الذين يصلهم نفع الكتب القيمة النافعة، التي طبعت على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، الدعاء له بالمغفرة والرحمة وجزيل المثوبة، كفاء ما قدم في نشر التراث الإسلامي الخادم للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وشكري وتقديري لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف، حفظه الله، ووفقه على حرصه على ما يخدم الدين والوطن، ويحقق الأمن والاستقرار والثبات على المنهاج الذي أسست عليه مملكتنا المباركة، وهو منهاج الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وذلك بالسير على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفق فهم السلف الصالح.