د. عبدالواحد الحميد
لا يحظى الاقتصاديون، في كل المجتمعات، إلا بالقليل من السمعة الحسنة لأنهم يتحدثون في معظم الوقت عن «الندرة» وعن أهمية «الترشيد» وتعظيم الفوائد المتولّدة من استخدام الموارد الاقتصادية المحدودة، وغير ذلك من المفاهيم التي تنطلق من إيمانهم بأن الموارد الاقتصادية في أي مجتمع تظل محدودة مهما بدت وفيرة وذلك بالمقارنة بالاستخدامات المتعدّدة والاحتياجات اللا نهائية التي يتعيَّن إشباعها. ومعلوم أن علم الاقتصاد يُعرف بـ»العلم الكئيب».
هذه المفاهيم التي يؤمن بها الاقتصاديون ويتحدثون عنها دائماً لا تعجب الكثير من الناس، وخصوصاً في أوقات الرخاء لأن البعض يخلط بين مفهوم «الترشيد» ومفهوم «التقتير».
لكن الواقع أن الناس حين يتصرفون كما لو أن الموارد الاقتصادية غير محدودة فإنهم لا يستخدمونها بشكل رشيد مما يُضعف إنتاجية الفرد ويضعف إنتاجية المجتمع، وهو بالطبع أمر لا يمكن أن يستمر لأن الموارد قطعاً محدودة والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة رغم أن الناس قد يقعون تحت هذا الوهم في المجتمعات التي يسودها الاقتصاد الريعي وهو الاقتصاد الذي يغيب فيه إلى حد كبير دَوْرُ الكدح والتنافس، تماماً كالوارث الذي تهبط عليه ثروة دون عناء، فهو لا بد أن يستنزفها يوماً ما إذا لم يقم بتنميتها.
ولأن اقتصادنا السعودي هو في معظمه اقتصاد ريعي فإن هناك خطراً عظيماً يهدّد حاضرنا ومستقبل الأجيال القادمة ما لم نعمل على تحقيق أقصى العوائد الممكنة من الموارد الريعية المتمثلة بالنفط والغاز وإعادة استثمار تلك العوائد بما يحقق تنمية مستدامة. وقد ظل الاقتصاديون السعوديون يرددون هذا الكلام منذ عقود ويطالبون بتنويع مصادر الدخل الوطني ورفع إنتاجية المواطن كخطوة أولى لرفع إنتاجية الاقتصاد الوطني بكامله.
وقد جاءت الميزانية الأخيرة في ظروف يعلمها الجميع بعد هبوط أسعار النفط هبوطاً شديداً وهو أمر لم يكن من الصعب توقعه فقد مررنا بأوضاع مشابهة في أوقات سابقة، حيث إننا نتعامل مع أسواق عالمية تتحكم فينا ظروفُها المتقلبة. وها نحن نرى أن تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين والظروف الاقتصادية غير المواتية لبعض الاقتصادات الكبرى وزيادة إنتاج النفط والغاز من مصادر جديدة قد سبَّبَتْ لنا، ضمن أشياء أخرى، كل هذه المتاعب.
ميزانية 2016، وإن كانت تعكس ظروف أسواق النفط، فإنها أيضاً تتزامن مع برنامج التحول الوطني الذي تمت صياغته وفق رؤية نابعة من المفاهيم الاقتصادية السليمة التي تتعامل مع الموارد الاقتصادية الوطنية بوصفها خاضعة لمبدأ الندرة مما يحتم تعظيم الفوائد التي يجب الحصول عليها من هذه الموارد عن طريق الاستخدام الرشيد لها.
إن المأمول هو أن يمثّل الظرف الحالي نقطة تحول في مسارنا الاقتصادي. فالميزانية الجديدة بحجمها الذي أُعلن قبل أيام ما زالت ضخمة، وحدود الإنفاق التي رسمتها هائلة، لكن الفرق هذه المرة هو أن التوظيف لما تحتويه الميزانية من بنود وأرقام وما واكب إصدارها من قرارات تتعلّق بترشيد استخدام بعض الموارد الوطنية الناضبة يمكن أن يصنع فرقاً سنراه إن شاء الله متجسداً في رفع إنتاجية اقتصادنا الوطني وتقوية قدرته على المزاحمة والتنافس في الساحة الاقتصادية العالمية. لكن المهم، بالطبع، هو التنفيذ.