د. أحمد الفراج
تتصارع التيارات الفكرية بشكل شرس، ويتهم كل تيار خصومه بأنهم غير وطنيين، وتدبج المدائح بالوطن، وتكال الشتائم للخصوم «غير الوطنيين»، أما ماهية المعايير التي تحدد مفهوم الوطنية فهي الغائب الوحيد عن هذا الصراع، الذي بدأ الناس يشمئزون منه، ودونكم ما عجت به وسائل التواصل بعد صدور الميزانية الأخيرة، فهناك من بشر بخيراتها قبل أن تصدر، وهناك من بالغ في نقدها، دوت التمحيص فيما تعنيه الأرقام، وكلاهما لم يقل الحقيقة التي يفترض أن ينقلها الصادقون الأمناء، وهم قلة، وبعد ذلك بدأت حفلات التخوين، فلو كتبت أن المواطن الفقير سيتأثر من جراء رفع أسعار البنزين، فأنت خائن، وعميل أجنبي!!، أما لو قلت أن رفع سعر المحروقات ضرورة اقتضتها الظروف، فستتهم بالتطبيل، وهنا لا بد من إيضاح أن «الوطنية»، في مفهومها الشامل، لا تعني أن تكتب مقالاً تتغنى فيه بالوطن وأنت على ظهر يخت في جزر الكاريبي، وليست الوطنية أن ترفع عقيرتك بادعاء الوطنية، أو تطلق تصريحاً مكرراً، فهي أعمّ وأشمل من ذلك بكثير.
لا أذكر أن السيناتور الأمريكي جون مكين، المرشح الجمهوري للرئاسة، في عام 2008 تحدث أو كتب عن وطنيته، أو فاخر بذلك، مع أنه حارب في فيتنام، مثلما فعل أبوه وجده، وتم أسره من قبل الفيتناميين، بعد إسقاط طائرته، وإصابته إصابات بالغة، ولأن والده ضابط كبير في الجيش الأمريكي، فقد كان صيداً ثميناً، ولذا، وبعد أن تم تعذيبه نفسياً وبدنياً، عرض عليه الفيتناميون إطلاق السراح، ولكنه رفض العرض، وقال: «إما أن يطلق سراح جميع زملائي معي، أو أن نبقى جميعاً»، وقد رفض الفيتناميون، وبقي هو مع أصدقائه المحاربين، ثم خرج معهم لاحقاً، وركزوا جيداً، عندما تشاهدون المحارب القديم، وعضو مجلس الشيوخ حالياً، جون مكين، فلا تزال آثار إصابته، وإعاقته واضحة في يده اليمنى، والتي لا يستطيع استخدامها بشكل جيد، فهل سمعتموه يوماً يفاخر بوطنيته؟!!، فالوطنية يا سادة مطلوبة، ولكنها سلوك وعمل، وليست تهريجاً يضر أكثر مما ينفع، في كثير من الأحيان.
نعم، لدينا نسخ من جون مكين، فالمبتعث السعودي، مثلاً، والذي يدافع عن بلده أمام زملائه، وأساتذته الأجانب، ويبحث، ويكتب، لتفنيد المزاعم الباطلة، يعتبر «وطنياً» بامتياز، مع أننا لا نعرفه، وهو لا يهمه أن يعرف الناس ذلك، ورجل الأعمال الذي يشارك في مشاريع تنموية، ويحرص على مساعدة المحتاجين، ولا يعلن عن ذلك، فهو وطني بامتياز، أيضاً، وعلى هذا فقس معيار الوطنية الصادقة. والخلاصة هي أن الناس سئمت من أؤلئك الذين تخصصوا في صرف وتعطيل «صكوك الوطنية»، حسب أمزجتهم، والتي لا تعدو إلا أن تكون تصفية حسابات بين تيارات فكرية متصارعة، يريد كل تيار منها أن يكسب نقطة، في صراع عانينا منه كثيراً، وطويلاً، فهل يتوقفون؟!!.