غسان محمد علوان
طالعتنا الصحف قبل فترة ليست بالطويلة، بخبر عن تعميم صادر من الرئاسة العامة لرعاية الشباب وتحديداً من مكتب الشرقية مفاده:
(التشديد على مديري الملاعب الرياضية بمنع دخول الفتيات حتى الصغيرات منهن وإن كنّ برفقة أولياء أمورهنّ). ذلك الخبر أوقعني في حرج شديد مع ابنتي (دانة) التي لم تتجاوز الثماني سنوات. فابنتي الغالية ليست من مجانين الكرة، أو المتابعين لها بشغف، ولكنها تعشق مشاركتي في إدماني الحميد في حضور المباريات من على المدرجات. هي تراها رحلة مع والدها عندما تقام المباريات في وقت مناسب وفي أجواء مناسبة. حينها أقوم أنا وعدد من الأصدقاء باصطحاب أبنائنا وبناتنا للقاء كروي عادة لا يكون بالغ الأهمية التنافسية، ولكنه حدث ترفيهي يظل يتحدث عنه الأطفال لعدة أيام متواصلة ويرسخ بذاكرتهم للأبد، تماماً مثل ذكرى حضوري للملعب مع والدي لأول مرة في حياتي. احترت فعلاً في إيصال الخبر لها، فبماذا أعلل حرمانها من مرافقتي في تلك التجربة التي تعشقها؟
هل أقول لها إن جميع الأطفال ذكوراً وإناثاً قد تم منعهم من الحضور؟
أم أشرح لها أن الملعب هو مكان للأشخاص السيئين فقط الذين لا يؤمن جانبهم، فأوصم نفسي بتلك الأوصاف بطريقة غير مباشرة؟
هل أقول لها إننا كمجتمع نستحضر دوماً أسوأ الأمثلة لدينا ونلبس كل أفراده ذلك الثوب المليء بالسواد والانحراف الفكري والسلوكي ونبني على ذلك قراراتنا؟
كل ما أذكره من رحلاتي القليلة معها إلى الملعب هي تلك الوجوه الودودة التي تبتسم لها أو تمازحها أو تهديها شالاً أو علماً. هؤلاء هم أفراد مجتمعنا الحقيقيون الذين يرون في الطفولة أنصع صفحات البراءة، ويرون في كل طفل أو طفلة ابناً أو ابنة لا أكثر.
وكل ما تذكره هي من تلك الرحلات، حملها للأعلام هي وابن عمتها (سعد) ذو الستة أعوام وهما يرفعانها من خلال فتحة سقف سيارتي بعد انتهاء اللقاء بابتسامات وفرح يكادان ينضحان منهما.
لم أبلغها الخبر يومها لعدم وجود سبب حقيقي يدعوني لذلك، وطمعاً مني بأنه مجرد اجتهاد عملي من مكتب الشرقية ولم يبلغ حيز التنفيذ بعد. حضرت بعدها بعدة أيام لقاءً كروياً مع أحد الأصدقاء، واستوقفتنا مشادة كلامية بين أحد الجماهير وهو ممسك بيده فتاة لا تتجاوز الستة أعوام مع أحد مسؤولي الأمن في الملعب. ذلك المشجع كان قد ابتاع تذكرتي منصة قيمة كل منهما 800 ريال، له ولابنته الصغيرة قبل أن يتم منعها من الدخول وكان يردد بطريقة شبه هستيرية (تراها صغيرة، والله صغيرة). ولم يتلقَ أي إجابة من المسؤول سوى: هذا النظام، وش تبيني أسوي، رجعها البيت وتعال لحالك!!
وفي لقاء آخر رأيت رجلاً بصحبة أطفال ثلاثة (لا يوجد بينهم أنثى ولله الحمد)، وبعد تجاوز آخرهم نقطة التفتيش ظلت أعين المسؤول تتفحصه بدقة (ولا أدري حقيقة عما كان يبحث) ثم صرخ على والد الطفل: (يالحبيب، هذا ولد ولا بنت؟)، ورد عليه الرجل مذهولاً: (ولد ولد).
أمثلة مخجلة يستحي من يذكرها من ذكرها، ولا يستحي منها من تسبب بها بقرارات عشوائية لا سبب لها سوى سوء نية المسؤول ونظرته الدونية لمجتمعه.
وأخيراً قررت أن أصارح (دانة) بالخبر، وبعد سماعها له سألتني بكل براءة: (ليه؟؟!!) فلم أجد إجابة أفضل من كلمة (بس كذا). غلبتها دمعتها التي حاولت حبسها قدر المستطاع ففرت من عينها وبكت.
هي في حقيقة الأمر لم تبكِ بسبب عشقها لكرة القدم، بل بكت قهراً على حرمانها من مشاركتي في شيء أحبه بسبب مسؤول لا يرى في مجتمعنا سوى أسوأ أمثلته.
خاتمة:
ونهجو ذا الزمانِ بغير ذنبٍ
ولو نطق الزمانُ لنا هجانا
(الإمام الشافعي)