د.فوزية أبو خالد
يبدو أنه من الأمور التي لا أستطيع الا أن أقحم قلمي فيها على الأقل مرة أو مرتين كل عام أو عامين هو أمر الميزانية والنفط. وغالبا مايأتي ذلك بعناوين شبه سريالية مثل عنوان في «الصيف ضيعت النفط» أو «قبل أن يفوت الفوت» أو «كثرة الاستهلاك تؤدي إلى الهلاك»
أو بعنوان «البلاد والنفط» على وزن «الجميلة والوحش». وليس مستغربا أن يهتم أي كاتب رأي في قضايا الشأن العام بأمر جلل مثل أمر النفط في دولة ريعية تعتمد في كل صغيرة وكبيرة من حياتها على مردود دخوله المالية الا أن المستغرب هو أنني وغيري من الكتاب الذين نلقي بأيدينا إلى هذه المسألة في الغالب ندور في نفس دائرة الهاجس وهو هاجس التساؤلات ليس الا دون أن يكون لما نكتب ما قد يؤثر قيد أنملة على مد وجزر النفط أو مد وجزر الكيفيات التي يجري التعامل به معها. وهذه المواقف التساؤلية المحيدة عن مجرى المصير النفطي العام تسري في السراء مثلما كان الحال بالمجتمع السعودي إبان الطفرة النفطية الأولى من منتصف السبعينيات الميلادية إلى مطلع الثمانينيات، ومثلما صار عليه الحال خلال العقد المنصرم من بداية الألفية الثالثة إبان الطفرة النفطية الثانية, كما أنها سرت وتسري بنفس الحياد إبان السنوات النفطية العجاف. أما مثار هذا الكلام هنا والآن فهو أن أرقام الميزانية لهذا العام رغم استمرار وتيرة الإنتاج النفطي الهائلة وعلى مابذلته الدولة من جهد جهيد «للتسمت» والصمود أمام الانخفاض الحاد في أسعار مبيعات النفط بما لايؤثر على كفتي ميزان التزاماتها الإقليمية والخارجية والتزاماتها الداخلية والوطنية، فإن الفجوة التي قاربت مليارا ونصف بين المدخول والصرف تثير القلق وتعيدنا لمربع تلك التساؤلات العضال حول ما العمل ليس فقط لرأب الفجوة بل لوقف اتساعها بما قد يضع كل البلاد الريعية في العراء. وهو عراء مريع قد يبتدئ بعراء الدين العام وعراء عجز الوفاء بالخدمات الأساسية التي اعتاد المواطن الريعي الاعتماد على الدولة الريعية الرعوية في توفيرها إلا أنه عراء قد يؤدي إلى توسيع رقعة البطالة وإلى ارتفاع سقف خط الفقر وإلى الانكفاء أو الزعزعة لاسمح الله. وترتفع نسبة هذا التوجس خاصة لو استمرت نفس وتيرة هبوط مستوى أسعار النفط الذي وصل فيه تراجع عام 2015م إلى 48%عن مستوياته السابقة.
وفي هذا الصدد قرأنا ماقبل ومابعد صدور الميزانية لهذا العام الكثير من الأقوال بل والتحليلات المتشابهة مع ماطرح ويطرح في كل تواريخ صدور الميزانية وبالتحديد في سنوات التأزم النفطي, ومن أبرزها القول والمبالغة في القول وتشديد القول على ضرورة تنويع مصادر الدخل وعدم الارتهان على العائد الريعي من بيع النفط كمادة خام والتي تتجاوز نسبة الاعتماد شبه المطلق عليه في الحقيقة 80% بالمئة دون أن تتزعزع هذه النسبة الا بنزر أقل من القليل رغم سيل الكلام الاقتصادي العرمرم الذي يجرى وجرى التشدق به في تكرار قول تنويع المصادر، إيجاد مصادر بديلة. وفي هذا السياق أستعير رأيا متسائلا كتبه بسخرية مريرة أحد الزملاء من الكتاب عام 2008م تناول فيه قشة من طوفان أسئلة لازالت سارية عام 2016م قال فيه على سبيل المثال:
- الهيئة الملكية للجبيل وينبع ستكلفنا هذا العام 5600 مليون ريال. كنت أعتقد أنهما مدينتان اقتصاديتان تحققان لنا دخلا خصوصاً أن دولتنا أنفقت عليهما عشرات المليارات لتجهيزهما وقدمتهما على طبق من ذهب للمستثمرين وقدمت لهم كل البنية الأساسية. فإن كانت هناك أعباء اقتصادية فليحملها أصحاب المصانع في تلك المدن، فليس بينهم الأرملة والعاجز والمسكين، فليدفعوا مصاريفهم، لماذا نتحملها نحن نيابة عنهم؟»
وهذا الكلام يكشف استمرار مواجعه لو وجهنا سؤالا محددا عن نسبة الدخل التي قد يدرها أي من مشاريع الاستثمار التي تصرف عليها الدولة دم قلبها في مساندة الميزانية بأي مردود من جدواها الاقتصادية إن كان لها من جدوى أو حتى في مجال تحمل أي من مصروفات عامة في مجال خدمات النفع العام.
غير أنني طالما لم أكتب هذا المقال للتحسر على الزيت المراق فلابد أن أبحث عن قبس فيما يمكن أن يشكل بارقة جديدة للخروج على سياسة الجميلة والوحش في علاقة البلاد بالنفط وآمل حقا أن تتجسد هذه البارقة بما يلوح كأمل جديد على هذا النهج لهذا العام والمتمثل في توجهات مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية،حيث نلمس فيما يكتب عنها حسا نقديا تجاه الأداء الحكومي وشراكات القطاعين الخاص والمجتمعي.
وفي هذا الشأن أقدم عدة نقاط ليس لأهمية الأخذ بها وإنما لضرورة عدم السكوت عنها وهي:
أولا, ضرورة الخروج في العلاقة بالنفط من تلك العلاقة الأحادية التي تجعله شأنا حكوميا خاصا وشأنا ماليا خالصا لاعلاقة لمجتمع برمته به الا عن طريق تلك العلاقة الريعية الرعوية. أي توزيع «المغنم الريعي « على شكل رواتب وبدلات...الخ دون ربطها بإنتاجية أو بمشاركة شعبية.فريعية النفط وإن كانت ريعية اقتصادية فإن تعريف الريعية ميدانيا أصبح تعبيرا عن حالة سياسية واجتماعية بل وثقافية ولا أظن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الا مدركا أنه لن يستطيع معالجة واقع النفط وعجز الميزانية ومقولة تنويع مصادر الدخل بدون معالجة الابعاد السياسية والاجتماعية والثقافية للخروج من عنق الزجاجة الاقتصادي ولبناء قاعدة اقتصاد وطني منتجة.
ثانيا. لابد للمواطن في هذا السياق الخروج في علاقته بالنفط طوعا قبل أن يصير كرها من علاقة الاستهلاك إلى علاقة الترشيد والإنتاجية. وهذا يتطلب مشاركة المواطن في جزء من أعباء الدخل الوطني وفي هذا ماالذي يمنع من إلزام الشركات الاستثمارية الكبرى والشرائح الاجتماعية «المخملية الباذخة « من دفع ضريبة دخل تعود على ميزانية الدولة وتوجه للصرف على خدمات النفع العام. وما الذي يمنع أن تكون هي صاحبة الحصة الأكبر في دفع فاتورة رفع الدعم الحكومي عن السلع خاصة البنزين والماء والكهرباء.
ثالثا، طبعا من أبجديات هذا التوجه للشراكة المجتمعية في مسؤولية المواطنة وجود القانون فليس هناك ضريبة دخل بدون قانون. وهذا يجعل من مطلب القانون مطلبا لا مناص منه للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
رابعا، هناك أيضا وأيضا ضرورة إشراك المواطنين والدفع في عجلة بناء مؤسسات المجتمع المدني لتكون شريكة في السراء والضراء وفي مواجهة التحديات بدل ذلك الموقف الذي يرمي بكل الإشكاليات والمسؤوليات على عاتق الحكومة وحدها وبدل مواقف التطمين وتطييب الخواطر فيما يتطلب الأمر أن الدولة تتعامل مع مواطن راشد عاقل آهل مطلوب منه تحمل مسؤولية الحقوق والواجبات لا انتظار الحدب والرعاية.
وأخيراااا..
لطالما شعرت أن علاقتنا بالنفط وبالمداخيل الريعية من مبيع النفط الخام في شحها وبذلها حسب تذبذب مد وجزر السوق النفطي العالمي ومسار الحدث السياسي والعسكري لا تشبه شيئا الا حالة من التشابك الغريب بين ثلاثة من الأمثال المحلية الشعبية. المثل الأول يقول: «ما هان مدخاله هان مخراجه» فنحن كمجتمع وكدولة لانبذل كبير جهد في الحصول على مداخيل البترول فيسهل علينا تبديدها في الأوجه الضرورية أوالترفيهية والتافهة معا. المثل الثاني هو المثل القائل «أنفخ يا شريم قال ما عندي برطم». فنحن لانملك الكيفية التي يمكن أن نحول فيها هذا الذهب إلى مصدر مستدام للرزق وليس مجرد مصدر طارئ يتبخر بتبخر الطفرات النفطية المتقطعة. اما المثل الأخير فهو ذلك المثل القائل هاك خير قال ماعندي ماعون، فنحن بعد نصف قرن من اكتشاف البترول على أراضينا لم نزل عاجزين عن توطين هذه السلعة ولازال النفط سلعة غريبة عنا لدرجة أن طلابنا يتخرجون من المدارس بل ومن الجامعات بالكاد يعرفون ماذا يعني وجود النفط داخل أرضنا بسوى ذلك المعنى الاستهلاكي الشوفيني الضيق.