د. جاسر الحربش
قبل حوالي ثلاثين سنة ولدت للوطن ابنتان أسماهما طفرة وصحوة. البنت طفرة أنجبت للوطن الابن مسرف وأختها صحوة أنجبت الابن مرعب، وقد أثبت كل واحد منهما لاحقاً جدارته باسمه. صار الابن مسرف يبدد الثروات في الحياة الدنيا والابن مرعب ينظر للحياة الآخرة، وللأسف لم يكن لهما أخ ثالث يخطط للمستقبل.
ترى في أي مجتمع يمكن قبول هذا المشهد؟ صالة تتسع لمائتي شخص يجلس فيها عشرون وأمام كل فرد صحنان مكدسان بأفخر أنواع التمور، وتدور أباريق القهوة والشاي بما يكفي لإرواء طلاب جامعة الملك سعود وطواقمهم التعليمية. يأكل كل فرد تمرتين وربما ثلاث ويرتشف فنجانين أو ثلاثة، ثم يبدأ الترحيب والتهليل إلى الوليمة الكبرى. صحون التمر وأباريق القهوة والشاي بقيت لم تمس وكأن على رؤوسها الطير أو الذباب لا فرق، أما الوليمة ففاجعة استهلاكية كبرى في وسط صالة لا تقل عن سابقتها سعة ورونقاً ينتصب صحن داود بن سليمان الذي كان يشبع الجند كلهم، أطنان من الأرز بحواشي من المكسرات وفوقه طن آخر من اللحوم بحواشي من لحم الطير، وفي ركن آخر تنتصب صينية فارهة عليها طن آخر من أنواع الفواكه. يتقابل الضيوف العشرون لا يكاد يسمع أحدهم الآخر لتباعد المسافات، وبعد ربع أو ثلث ساعة ينهضون، يلتفون مبتعدين عن تل الفواكه لأن الفواكه تسبب لهم الحموضة، فهكذا يعتقدون، يغسلون أياديهم ويعطرونها ثم يعودون إلى الصالة الأولى، ليقول الداعي استروا يالربع على ما واجهتم وهذا ما هو حقكم، فيرد كبير الضيوف ما يجي منك تقصير يابو فلان بيض الله وجهك. أثناء ارتشاف فنجان الوداع يتنحنح شيخهم قائلاً احمدوا الله يا إخواني على هذه النعم فوالله ثم والله إن إخواننا في الدول المجاورة يموتون من الجوع والبرد. أكرمك الله يابو فلان واللقاء القادم إن شاء الله عند أبي فلان. انتهى المشهد.
هل السردية أعلاه مجرد خيال مريض، أم أنها وقائع متكررة ويومية، وإذاً في أي مجتمع ومن هو المجتمع مع سلطاته الحكومية الثلاث الذي يتحمل هذه الارتكابات التبذيرية، وهل في الموضوع كرم أصيل أم نفاق اجتماعي ممجوج؟ أترك الأجوبة للقارئ ولكل من يهمه الأمر.
الآن بعد توفر وسائل المشاهدة والمقارنة نستطيع الاطلاع على موائد كبار القوم في هذا الوطن قبل خمسين سنة فقط، لنقارن بين تواضع تلك الموائد القديمة وفراهة موائد المحدثين من ضعاف العقول لكن شديدي الثراء من غير استحقاق شرعي ولا وطني أحياناً.
الآن وصلنا إلى مرحلة شد الأحزمة ووالله إنني أرحب بها وأتفاءل. هذه المرحلة العقلانية توجب على الدولة بسلطاتها الثلاث أن تضيف إلى خططها في الميزانية الجديدة مكابح نظامية لإيقاف الهدر السفيه للمواد الاستهلاكية وللأموال، بالإضافة إلى مطارق تأديبية لتضرب بها على الأيادي التي تستمر في دفع الوطن إلى هاوية الجوع القديم وعصور العصبيات البدائية المتعادية.
منذ ما يسمى بسنوات الطفرة والصحوة وحتى اليوم قطعنا بالفعل عدة خطوط حمراء نحو الهاوية، بحيث أصبح رأس حيوان واحد أثمن من ديات عدة رؤوس بشرية، والبلايين نبعثرها في الخارج على الغرائز البهيمية بدون مردود علمي أو ثقافي، وآلاف الأطنان من الأطعمة والمشروبات نلقيها في المزابل بعد ولائم النفاق، ويغض النظر عن وعاظ يفرخون لنا من يعين أعداءنا علينا، وتعليم وخطط اقتصادية تستفرغ علينا من ذوي العقليات المشوهة ومدمني المخدرات وفارغي الأفواه للإطعام بالمجان.
لا أدري كم عدد الخطوط الحمراء المتبقية قبل الوصول إلى الحافة! حيث الجوع والولاءات الفرعية، ولكن من المؤكد أن المجتمع الذي قطع بالفعل كل الخطوط الحمراء المذكورة أعلاه لا يبقى أمامه الكثير قبل خط النهاية وعليه أن يتدارك أمره.
لن تعجب هذه الحقائق مواطناً مرتخياً في رفاهية لم يكافح ويتعب للحصول عليها، ولا متسولاً أو مسؤولاً تعود على النفاق والتسويف، ولا اتكالياً يريد إقناعناً بأن الدعاء وحده بدون عمل يؤمن المستقبل، لكن هؤلاء هم أول من سوف يعض أصابع الندم إن لم تبادر الدولة بسلطاتها الثلاث إلى التعامل بما تقتضيه الضرورات تجاه السفاهات المذكورة.
وأختم بما بدأت به، يا حبذا العودة إلى ما قبل الطفرة والصحوة، وبالشكر والعلم والعقل تدوم النعم.