د.عبدالله مناع
عندما قامت الثورة الإيرانية الإسلامية في فبراير من عام 1979م.. على الإمبراطور محمد رضا بهلوي وحكوماته التي كانت تسير على خطين متوازيين: التحديث و(العصرنة) داخلياً.. بهدف قيادة المجتمع الإيراني لأن يصبح مجتمعاً حضارياً..
..يماثل في رقيه المجتمعات الغربية الأكثر تحضراً ورقياً، والارتماء في أحضان المعسكر الرأسمالي وزعيمته (الولايات المتحدة) الأمريكية، واتباع سياساته.. خارجياً، وإلى حد الاعتراف المبكر بـ(ربيبته) إسرائيل.. واستقبال سفيرها في طهران، وإمدادها بالنفط الإيراني.. إلى حد تزويد المقاتلات الإسرائيلية بما تحتاجه منه في عدوانها الآثم والمبيت على مصر في الخامس من يونيه / حزيران من عام 1967م.
لقد كانت إيران (الشاه) آنذاك.. عدوة حقيقية للأمة العربية وطموحاتها وأحلامها وقضيتها المحورية الكبرى: «القضية الفلسطينية».
فجاءت الثورة الإيرانية الإسلامية.. لتقلب كل ذلك رأساً على عقب وتقيم مجتمعاً إسلامياً.. وليس غربياً، وتتبنى سياسات عادلة من قضايا العالم الكبرى.. وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بالعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لـ(القدس) والضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى حد سحب الاعتراف - الشاهنشاهي - بـ(إسرائيل) وطرد السفير الإسرائيلي وطاقمه، والاستيلاء على مقر السفارة الإسرائيلية في (طهران).. بل وتسليمه لـ(منظمة التحرير الفلسطينية) وزعيمها (ياسر عرفات) بكل محتوياته، ولذلك استبشرت الشعوب العربية خيراً بقدومها، بينما غضبت الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط الشاه: (شرطيها) في المنطقة.. فلم ترحب بـ(قيامها)، بل وهددت باستخدام القوة ضدها من خلال استعراضها لقواتها الجوية في سماء الخليج.. وهو ما دفع بالثوار الإيرانيين الهائجين في تلك اللحظات الدراماتيكية الحرجة لاقتحام السفارة الأمريكية في طهران، والاستيلاء عليها واحتجاز دبلوماسييها واعتبارهم (رهائن).. لم يتم الإفراج عنهم إلا بعد أن تم إسقاط الرئيس جيمي كارتر في الانتخابات الأمريكية.. التي صادف إجراؤها آنذاك، وهو ما حرمه من (دورة ثانية) في البيت الأبيض.. كان واثقاً من الفوز بها بعد إنجازه معاهدة السلام في كامب ديفيد بين (بيجين) و(السادات)، ليحل محله مع مطلع الثمانينات من القرن الماضي (رونالد ريجان) الذي قدم من استديوهات (مترو جولدين ماير) السينمائية.
* * *
وإذا كانت الحرب العراقية - الإيرانية التي اشتعلت بعد ثمانية عشر شهراً من قيام الثورة الإيرانية.. والملتبسة الأهداف عراقياً: بين ما كان يدعيه الرئيس العراقي صدام حسين.. من أنها قامت للتصدي للثورة، ومنع تصديرها للدول المجاورة ليكسب به الأمريكيين والخليجيين.. وبين حقيقة أسبابها ودوافعها في نقض (اتفاقية شط العرب) التي تم التوقيع عليها عام 1975م لاحتواء الخلافات بين الدولتين، والتي وقعها الرئيس صدام نفسه وحكومة الإمبراطور رضا بهلوي السابقة.. برعاية جزائر (هواري بومدين)، والتي شعر الرئيس صدام - بعد عودته من الجزائر - بأنها لم تنصف (العراق) كما ينبغي.. فأخذ يتحين الفرصة للانقضاض عليها، لتواتيه بها فرصة قيام الثورة.. قد وضعت بذور خلافات وأحقاد ومرارات جديدة في تربة العلاقات بين الدولتين الجارتين.. والتي لم تبرأ من إرث خلافاتها التاريخية القديمة أصلاً، والتي كانت بين الفرس والعرب إجمالاً.. إلا أنه أمكن تجاوز تلك الحرب الطويلة ونسيان مراراتها.. بعد رحيل الإمام الخميني، وتعاقب رئاسات إيرانية مختلفة التوجه والفكر والثقافات.. خارج تلك القداسة التي كان الخميني يحيط نفسه بها، والتي كان قوامها.. ونقطة ارتكازها (ولاية الفقيه) الذي يمكن أن يحل محل (الإمام الغائب) أو المهدي المنتظر في إدارة شؤون الأمة الإيرانية.. إلى حين عودته، والذي عند ظهوره وولايته سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً!! فقد تعاقب على الرئاسات الإيرانية.. بعد الحسن بني صدر - الابن الروحي للإمام - الذي تولاها أيام الخميني، بينما احتفظ لنفسه بلقب (المرشد) أو (الفقيه): الرئيس هاشمي رفسنجاني.. بـ(براجماتيته) المعروفة، التي يذكرنا به حتماً.. موقفه من الأمير عبد الله - يرحمه الله - أثناء زيارة الرئيس رفسنجاني لـ(المملكة).. رداً على زيارة الأمير عبد الله لـ(طهران) عندما اتصل به في أعقاب صلاة الجمعة في المسجد النبوي - بالمدينة المنورة - معتذراً عن الإساءات التي وجهها خطيب المسجد لـ(المذهب الشيعي) أمام رئيس دولة شيعية: هو وكل مرافقيه.. فقال له: لا تقلق يا طويل العمر.. فلدي مثل خطيبك في طهران عشرات ومئات مثله من المتشددين والمزايدين!! والذي خلفه - فيما بعد - الرئيس: المثقف والمستنير (محمد خاتمي).. ليمضي في إدارة العلاقات العربية - الإيرانية بثقافته وبعد نظره.. على ذات النهج، الذي كانت تسير عليه أيام (رافسنجاني) وبراجماتيت، وهو ما جنب المنطقة طوال سنواتهما التي امتدت لستة عشر عاماً.. تلك العنعنات المذهبية، والمماحكات الفارغة.. التي لا طائل من ورائها، والتي لا تدفع عن الأمة الإسلامية شراً.. ولا تكسبها خيراً.
* * *
لكن.. ومع مجيء الرئيس الإيراني (المحافظ) والمحتد: أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة الإيرانية.. كانت الأمور تتغير بعض الشيء، والتناول الإيراني للقضايا العربية سياسياً وإعلامياً يتغير معها شيئاً فشيئاً.. إلى أن جاء الغزو الأمريكي لـ(العراق) في مطلع القرن طمعاً في ثرواته النفطية والحضارية، وفي القضاء على جيشه - الذي كان يمنع بوجوده.. حتى ولو لم يفعل شيئاً - التعنت الإسرائيلي، الذي استمر - بعد الغزو الأمريكي - مطمئناً.. غير عابئ بـ(الفلسطينيين) أو بـ(العرب) ومبادراتهم.. وصولاً إلى يوم الإعلان عن تقسيم العراق إلى ثلاث دول: كردية بترولية في الشمال.. لم يبق إلا البيان الرسمي عن قيامها، وسنية زراعية في الوسط، وشيعية ساحلية في الجنوب.. والذي سيتغير معه كل شيء في المنطقة، ليظهر معها - ولأول مرة - الطرح الإيراني.. في إقامة ما يسمى (القوس الشيعي) على رأس الخليج، ولم يتغير شيء.. بعد مغادرة (نجاد)، وقدوم الرئيس الإصلاحي (روحاني).. بل طفت معه على السطح فجأة تلك العلاقة المريبة أو المثيرة للجدل - على الأقل - بين (الدولة) الإيرانية و(الجماعة) الحوثية؟! التي أبدلت (زيديتها) التاريخية المتجذرة إلى (إثنى عشرية) نفعية.. بادئة - إيرانياً - بمساعدات إنسانية واجتماعية فـ(طبية) فـ (عسكرية)، ومنتهية - حوثياً - إلى مطالب سياسية لا حق للحوثيين فيها وحدهم.. خروجاً على مؤتمر الحوار الوطني الشامل وإجماعه ومخرجاته، ثم لنجد بعد ذلك.. خاصة بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة الـ(5+1) في يوليه الماضي.. تصاعد الشد والجذب - مع عرب الخليج - بداية.. حول ما يجري في (البحرين).. انتصاراً لأبناء الطائفة الشيعية فيها، وانتهاءً بما حدث يوم السبت - قبل الماضي - من ردة فعل إيرانية متهورة غير متوقعة على تنفيذ أحكام القضاء السعودي بحق سبعة وأربعين متهماً، أدينوا أمامه. فإذا كان زمن (القرية الكونية) الواحدة.. بـ(إعلامه) المفتوح - صوتاً وصورة - على مدار الساعة الذي نعيشه.. يسمح بالتعبير عن الرأي سلباً أو إيجاباً في كل ما يجري في هذه القرية الكونية من سور الصين العظيم شرقاً إلى شواطئ (مانهاتن) غرباً.. فإنه لا يسمح بارتكاب الجرائم على نحو ما شهده العالم في سفارتنا في (طهران)، وقنصليتنا في (مشهد)..!!
فـ(إيران) الثورة في (انفلاتها).. لم ترتكب عند اقتحامها لـ(السفارة الأمريكية)، ما ارتكبته (إيران) الدولة - بعد سبعة وثلاثين عاماً من رسوخها - بحرقها لمبنى السفارة السعودية في طهران.. سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فهي (جريمة) ترقى إلى مرتبة الخطيئة التي لا تغتفر..!!
* * *
ومع هذا الذي حدث.. أجدني أتأمل بعين الحسرة والقلق والخوف.. المصير الذي يلوح في الأفق لـ(أمتنا الإسلامية).. من هذا (الانقسام) بين أبناء الملة الواحدة والدين الواحد، والذي لن يبقي.. ولن يذر، متسائلاً: أين علماء الإسلام.. وأين الأفذاذ والكبار من رجاله لمواجهة قنبلة انقسامه المدمرة..؟!