نجيب الخنيزي
يتسم الوضع الدولي بوجه عام، والمشهد العربي بوجه خاص بحالة من السيولة، وعدم الاستقرار، وغياب اليقين إزاء المستقبل.
صحيح أن اندلاع ما عرف بثورات «الربيع العربي» التي أسقطت عدداً من الرؤساء العرب، أحيت آمالاً وتطلعات جديدة لدى هذه الشعوب العربية وغيرها، نحو التغيير، والإصلاح، لأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، غير أن ذلك لم يتحقق، بل رأينا مزيداً من التدهور والانهيار والتشظي على جميع الأصعدة والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، الذي وصل حد التفتيت والتقسيم الفعلي للأوطان والمجتمعات، ونذكر هنا طبيعة التحديات والعقبات الموضوعية والذاتية، والدور (المحفز أو الكابح) للعاملين الإقليمي والدولي، وقبل كل شيء كيفية التعامل مع حجم التركة الثقيلة التي أورثتها تلك الأنظمة التي من مؤشراتها، التدهور الاقتصادي/ الاجتماعي، مما انعكس في النسب المرتفعة في حجم، الفقر، المديونية العامة، والعجز في الميزانية الحكومية، وحيث لا تزال مكونات النظام القديم (رغم غياب الديكتاتور) تمتلك مرتكزات قوية على صعيد أجهزة الدولة، ومؤسساتها المختلفة، وكذلك تأثيرها الملحوظ بين بعض مكونات وشرائح المجتمع، ناهيك عن هيمنتها على الصعيد الاقتصادي.. غير أن كل تلك التحديات كان يمكن تجاوزها مع قيام وترسيخ الدولة المدنية العادلة، بمؤسساتها الدستورية وتأكيد قيم وحقوق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، لكن ما يثير القلق والخوف هو تزايد وتعمق الانقسامات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية والاثنية ما بين مكونات المجتمعات العربية، وخصوصاً الأنظمة العربية الناشئة.
وهو ما يتطلب اليقظة والحذر إزاء مخططات الدول الكبرى والإقليمية، وفضح وعزل القوى والجماعات المتطرفة، بغض النظر عن تمظهراتها المذهبية والطائفية أو دوافعها واستهدافاتها وأجندتها المعلنة أو الخفية، حيث باتت جل المجتمعات والبلدان العربية تعيش واقعاً مريراً غير مسبوق، من حيث درجة الانقسام، الاحتراب، الفرقة، والشلل الذي يأخذ مداه (أفقيا ورأسيا) على مستوى النظم والشعوب والمجتمعات والنخب في الآن معاً. والذي وصل إلى مدياته الخطيرة في تصدر الجماعات الإرهابية للمشهد العام، وذلك على حساب الوحدة الوطنية/ المجتمعية، حيث انحدر إلى منزلقات الحروب والصراعات الدموية في العديد من المجتمعات العربية، ويتعين هنا ملاحظة العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية المساعدة على نجاح سياسة التأجيج والشحن الطائفي في المنطقتين العربية والإسلامية، كما أنه إفراز لبيئة اجتماعية سياسية اقتصادية وثقافية داخلية مأرومة في المقام الأول. وهذا لا يعني إطلاقاً تجاهل دور العامل الخارجي (الدولي والإقليمي)، الذي يستفيد من هذه الأوضاع، ويعمل على توظيفها وفقاً لمصالحه وأجندته واستهدافاته الاستراتيجية.
إزاء تصاعد الخطاب الطائفي، اكتفت جل الحكومات والنخب العربية إما بالتجاهل أو الإنكار، أو من خلال إجراءات فوقية، وشكلية محدودة وجزئية، للتغطية على المشكلات الخطيرة وإفرازاتها السلبية، مما سيعمل على إطالة أمدها وتفاقمها، وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل الممارسات والتصريحات الرعناء من قبل المتطرفين والمتشددين في المذاهب كافة، بما في ذلك الإساءة إلى المعتقدات ورموز الأديان والمذاهب المختلفة.
علينا معاينة التوجه الخطير في السنوات الأخيرة لنفخ وتضخيم الهويات الطائفية والمذهبية والمناطقية على اختلافها ومحاولة خلق اصطفاف فئوي متقابل ومتناحر، وذلك على حساب الوحدة الوطنية والاستقرار والسلم الأهلي الداخلي التي تجسدها الدولة، وبغض النظر عن الملاحظات والانتقادات عليها. نحن نعرف أن الدول الكبرى بوجه عام كما الدول الإقليمية وبغض النظر عن تباين متبنياتها السياسية والأيديولوجية، إنما تنطلق من مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والقومية في المقام الأول، ولا بأس أن تسوق الدول الغربية الكبرى شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أو ترفع إحدى الدول الإقليمية لشعارات نصرة المذهب والمظلومية، وأعني بها إيران، حين يصب ذلك في خدمة مصالحها الاستراتيجية في الهيمنة، وفي الحالتين الدولية والإقليمية نرى التناقض الصارخ ما بين الشعارات والممارسات على أرض الواقع.
يتعين هنا الحذر من سعي البعض القليل للتساوق بحسن أو سوء نية مع تلك الأطروحات التقسيمية التي ظاهرها رحمة وباطنها سوء العذاب والخطر على وحدة الأوطان وتماسك المجتمعات.
من هذا المنطلق، ندين وبشدة ما تعرّضت له السفارة والقنصلية السعودية في طهران ومشهد من حرق وتدمير من قبل الغوغاء في إيران، وذلك تحت سمع وبصر الحرس الثوري وأجهزة الأمن الإيرانية، ونعتبر ذلك مساساً وانتهاكاً مباشراً ضد أرض سعودية لها حرمتها التي كفلتها المبادئ والقوانين والأعراف الدبلوماسية الدولية.
يتعين على جميع الدول الكبرى والإقليمية احترام مبادئ السيادة والاستقلال وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، تحت شعارات وعناوين كشف زيفها في عقر دارها، وهنا نستذكر القمع الدموي والتصفيات الوحشية من قبل أجهزة السلطة الدينية في إيران ضد القوى الوطنية الإيرانية التي شاركت بقوة في إسقاط نظام الشاه، مما أدى إلى استفرادها بالسلطة، بل وطال قمعها التيارات والشخصيات الدينية والسياسية المخالفة، رغم أن بعضها جاء من عباءة النظام.
وفي هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة التي تعصف بالمنطقة فإن الغالبية الساحقة من شيعة السعودية والخليج، كبقية المكونات الأخرى هم منتمون ومرتبطون أزلياً بأوطانهم وبلدانهم، وبأن أي خلافات أو مطالبات مشروعة تتم تحت خيمة الوطن وفي ظل قيادته، وبالتالي فإن الوحدة الوطنية خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وعلى إيران أن تكف من تدخلها في الشؤون الداخلية لهذه الدول.