عبد الله باخشوين
.. أحياناً.. يسألني ما فيَّ قائلاً:
- كم عدد الذين تم تضليلهم مني.. قبل أن يسكنوا باحة مخيّلتي..؟!
حين جاء السؤال،, لا بد أنني كنت أقف وحيداً على مفترق لا طريق فيه.. ولا يؤدي لأي مكان.. أتلفت خائفاً من ذلك الظل الصاخب الذي يتبعني، كأنه مني وهو ليس ظلي.. لكنه تظليل سواد تلك ((السيارة الهمر)) وصخب الظل العميق الذي يغطي كل زجاج نوافذها.
كنت أشعر أن بداخلها من يحدق فيَّ ساخراً لأنه يراني ولا أراه.. ولا أجد سبيلاً للهرب من وخز العيون التي تسلطت عليَّ من الزجاج المظلل سوى أن أدور حول نفسي.. لا أجد الأمام أمامي.. وليس فيما ورائي وراء.. كانت عيناي تصطدمان بالسواد وتعشى.
قلت لنفسي.. لا بد أنهم يضحكون داخل ((الهمر)) وهم يرونني أترنح وقد ارتج حالي عليّ والتبس.
قلت لنفسي.. لن أسقط.. لن تكتمل دوختي وتدور كل الأرض بي.. لمجرد أني تحت جاذبية ما خلف هذا التضليل العميق.
سرت كالأعشى.. أكاد أرى ولا أكاد أرى.. هربت إلى فراشي الذي جفاه النوم دون أن أفهم حقيقة ما أنا فيه.. ثم أدركت في لحظة يقين.. أن من في ((الهمر)) يريد أن تعشى روحي وليس عيني.. يريد أن يختلط ما فيّ عليّ ولا أعود أدرك من أمري شيئاً.. وقال قلبي: ((سبيلك الوحيد أن تتبع ما يؤمن به قلبك)).
وقال قلبي: ((سوف تكون عدوهم الوحيد)).
ثم همس بي: ((لا تخف.. لن يجدوا منك إلا ما يرونه في الظلال، أما أنت فسوف تمضي لشأنك ولن يعيقك أحد)).
قلت: ((وزحام رجم الجمرات)).
قال: ((أنت تراه ولا تحج فيه)).
كان خياري الوحيد ولا بديل.. هو أن أتبع يقيني وما يقوله قلبي.
مضيت خلفي.
أسير واتبعني.
والشمس لا تنير.. والظل لا يقي من وهج نار تشتعل داخلي.. والهواء لا هواء فيه.
وأنا.. أنا.. وحيدٌ بما أصبح فيه وما كان فيه.. يبحث عما يقيه من نور أنار.. ومن ظل أظل.
أكملت السير خلفي.
تبعتني.
كان ذلك أنا الذي هام في الطرقات.. ولم يجد في المطاعم ما يسد جوعه.. ولم يجد في المقاهي مقعداً يستريح إليه.. أو شراباً يروي عطشه.
كان أنا ذاك الذي وجد داخله عدوه.. أنا عدوي الملازم لي.. لكني لا أيأس مني.. أخذت في ما تبقى معي مني.. وقلت: يا إلهي العلي القدير.. الساكن في المسكون أنا.
والساكن والمسكون أنا.
لا شيء سواي أنا.. ولا أحد.
قلت لي.. لا بد أن هناك ركناً خفياً منك.. لم يصل إليه أحد.. ولا يعرفه منك أحد سواك.
قلت لي.. كيف أصل إليَّ.. وأجدني..؟!
أخذت أفكر في أمي وأبي - وقد ماتا منذ زمن بعيد - وقلت: لا بد أن أحداً منهما سيجدني.
ضحكت من نفسي عندما تذكرت مكاني. يا إلهي أنا في ((كندا)) و((جدة)) فين.. و((الطائف)) فين.
حاولت أن أتذكر الخريطة.. وضحكت: ((أنا حمار في الجغرافيا)).
لكنى لم أتوقف عن التفكير.
أذكر أمي جيداً.. عاطفية وضعيفة تجاه كل أبنائها.. إلا أنا.
في آخر لقاء كدت أتلكأ في حضرتها.. لكنها نهرتني وقالت:
- ((قوم ارجع لعيالك)).
ثم وأنا أنحني لأُقبِّل يدها ورأسها.. قالت: ((لا تخف من أي شيء ربي يجعلك نور)).
أما أبي ففي آخر لقاء به.. تجاهلني واتجه لزوجتي وأولادي ومضى يتحدث إليهم ويضحك معهم.. ثم قبل أن أنطلق بالسيارة إلى حيث نريد أن نذهب.. ضعف تجاهي.. أمسك برأسي وقبّل خدي قبلة طويلة.. طويلة.. طويلة.. ربما تكون الأولى التي أذكر أنه طبعها على خدي في عمري كله.. وقال كأنه يعتذر عن ضعفه: ((انتبه لعيالك)).
كنت أفكر فيهما معاً.. وأنا أجلس على ضفة النهر في ((مونتريال)).
لكنه جاء أولاً.
كان الثلج يندف خلف شباكي.
كان النور قد شعّ وانعكس على بياض الثلج قبل شروق الشمس وملأ غرفتي.. عندها شعرت به.. سمعت أصابعه تنقر شباكي نقراً خفيفاً.. وقبل أن أفتح عيني سمعت صوته يقول:
- هيا.. تعال..؟!