خالد بن حمد المالك
أصبحت دول العالم لا همَّ لها إلا موضوع التطرف؛ تعقد المؤتمرات، وتجيّش الجيوش، وتقام التحالفات، كما لو أنه لا شيء يشغلها عنه، ولا موضوع مهماً يصرفها عن الاهتمام به، بعد أن أصبحت سجينة بانتظار ما هو أسوأ من الكوارث؛ إذ سرق المتطرفون أمن الشعوب، وحوَّلوهم إلى وقود لجرائمهم، قتلاً وتنكيلاً، وإبادة لكل من لا يتناغم مع أفكارهم، دون وازع من ضمير، أو شعور بعاطفة أو إنسانية نحو هؤلاء الأبرياء.
* * *
والتطرُّف صناعة خطيرة، تقوم على العنف والكراهية والتخريب، وله منظِّروها وداعموها وممارسوها، وقد أصبحت ظاهرة اكتوت بنيرانها دولٌ وشعوبٌ كثيرة، وهي مرشحة للتوسع والامتداد بأكثر مما يحدث الآن، بناء على قراءات موضوعية لها؛ إذ ضعف تأثير المعالجات التي تمت حتى الآن؛ ما يعني أننا أمام مستقبل مظلم، إن لم تسارع الدول في البحث عن آليات جديدة لمواجهة الإرهاب قبل أن يستفحل ضرره بأكثر مما يحدث الآن.
* * *
لقد تنادى العالم إلى التوافق على أفكار تعزِّز من القدرة العالية على مقاومته، وتلبي ما يمكن اعتباره القوة المطلوبة لنزع مكامن القوة لدى الإرهابيين، غير أن هذه المحاولات لم تنجح بعد في إظهار جدية وتصميم دول العالم - وتحديداً الدول الكبرى منها - على التصدي للتطرف بما يزيل مظاهر الخطر عن دول العالم وشعوبها، بعد أن تبيّن أن الإرهاب لا يستثني أي أحد تكون لديه القدرة للوصول إليه.
* * *
صحيح أن التطرف يقود إلى الإرهاب، وأنه يتركز حالياً في دول عربية وإسلامية، لكن هذه الصناعة ما كان لها أن تكون، وأن تنجح بهذا القدر الكبير في تحقيق أهدافها، لو لم تكن الدول دون استثناء مساهمة في ذلك، سواء بالدعم أو الصمت أو التعامل المرن مع هذا الذي لا يخفى عليها معرفة أسبابه ومساراته وما يمثله من خطورة إذا ما استمر التعامل معه على ما هو عليه.
* * *
ولئن اهتمت العلوم الاجتماعية بظاهرة التطرف، ومثلها فعلت الجامعات ضمن مخرجاتها، وضمن عملها لتطوير المكون العلمي أو المعرفي في مواجهة الإرهاب، فإن من المبكر الجزم بأن مثل هذا الاهتمام قد حقق أهدافه، أو أنه وضع خريطة طريق للوصول إلى ما يقوض نشاطه؛ إذ إن الجرائم التي تُرتكب بشكل دائم ومستمر لا توحي بأن هذا الاهتمام في الجامعات وما صدر عنها من بحوث قد وضعت اليد على الجرح؛ وبالتالي أصبحنا على مسافة قريبة من القضاء عليه.
* * *
إنَّ التطرف بصوره وأشكاله، وما أفرزه على مدى أكثر من عقد من جرائم خطيرة - ولا يزال -، إنما هو معادٍ للحرية، قلق من الاستقرار، مهزوز من التطوُّر الذي تعيشه الشعوب. ومن الواضح أن من ينتسب إلى الإرهاب هو إنسان منحرف وقاتل، وبلا فكر مستقيم، أو رأي معتدل، وأنه ذو سلوك عدواني، يميل إلى إقصاء الآخر، ويحبذ العنف في تعامله مع الآخرين.
* * *
لقد استوطن الإرهابيون الساحات العربية - تحديداً - فاختلط الحابل بالنابل - كما يقال -؛ فلم تعد مظاهر التطرف والغدر، وما ترتب على ذلك، مقتصراً على مجاميع صغيرة، أو منظمات محدودة، وإنما شاركت الدول من خارج المنطقة بما لم يعد الادعاء بأنه غير واضح؛ إذ إنه معلن على الملأ، كما أن مجندين ضمن الأطراف الإرهابية جاؤوا من كل حدب وصوب للانضمام إلى هذه المجموعات، بما فيها مَنْ قدموا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجموعة الأوروبية وغيرها؛ ما يعني أن هناك خللاً في التخطيط الدولي وضعفا في المعالجة الصحيحة لهذه الظاهرة.
* * *
ثقافة العنف -كما أفهمها- لها أكثر من وجه، وأكثر من مصدر، وهو ما لا يمكن أن ينكره عاقل؛ فالخطاب الديني، ومخرجات التعليم، والمجتمع، والإعلام، هي التي صبغت منطقتنا بهذا اللون من التزمت والغلو والفهم غير الصحيح للدين، وهي المسؤولة عن جزء كبير من المشكلة، دون أن تعفى الدول الكبرى - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية - من المسؤولية فيما تشهده دول المنطقة من اضطرابات وحروب أهلية وفوضى خلاقة كما يسمونها.
* * *
غير أن الفرصة أمام دول العالم ما زالت قائمة لتطويق هذه الظاهرة، ومواجهتها بالقوة والتخطيط والتعاون الذي يُظهر لكل إرهابي أن هناك تصميماً دولياً متوافَقاً عليه بعدم السماح باستمرار إضعاف الأمن والاستقرار في أي دولة من الدول، وأن ترجمة ذلك إنما تكون بالتعاون الصادق بين دول العالم؛ فعندئذ لن يكون أمام الإرهاب إلا الاستسلام والرضوخ للإرادة الدولية، ومن ثم القبول بالأمر الواقع.
* * *
هناك تطرف فكري - وهذا هو الموضوع المهم الذي يجب أن يأخذ حقه من الاهتمام في سياق محاربة الإرهاب - لأنه يقود إلى غسل أدمغة الشباب، ضمن خطط ممنهجة، وأساليب مؤثرة. ومحاربة الفكر يجب أن يكون بالفكر، وبما يربط الشباب بالقيم والتعاليم الصحيحة، بعيداً عن التطرف والتزمت والغلو التي تمهد الطريق للشباب لممارسة الإرهاب بانضمامهم إلى الخلايا الإرهابية على النحو الذي يتم الآن.
* * *
صحيح أن معالجة التطرف، وما يقود إليه من أعمال، تواجهها اليوم معوقات كثيرة، أبرزها أن تصحيح هذا السلوك لدى الأفراد في زمن ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات يحتاج من المخططين إلى عمل مهني احترافي كبير، ينطلق من معرفة أهداف وخطط وتوجهات هؤلاء، وبناء استراتيجيات قادرة على هزيمتهم، بما في ذلك إعادة النظر في التربية وأسلوب التعليم، ومراجعة المعايير في سلوك الأفراد والجماعات، ووضع برامج توعوية، تمنع التغرير بالشباب، وتحول دون استقطابهم لهذا التوجه الكريه.
* * *
ولا أعتقد أن هناك من سيطالبني بالدليل على أن صناعة الإرهاب بدأت أول ما بدأت من خلال احتلال اليهود لفلسطين، وإقامة دولتهم الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية، ورفضهم حل الدولتين وفق ما تنص على ذلك قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والاتفاقات المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في أوسلو، كما أن صناعة الإرهاب ولدت أخيراً من رحم الأنظمة الفاسدة في بعض الدول العربية، واستخدامها من قبل دول أخرى للتأثير على استقرار المنطقة، وزرع الفتن والخلافات في مكونات الدولة الواحدة، كما هو ظاهر من خلال الدور الإيراني المشبوه في لبنان والبحرين ثم العراق وسوريا وأخيراً في اليمن.
* * *
وقد أتاح ذلك الفرصة للدول الكبرى لتكون شريكاً في هذه الصناعة القاتلة، حين قامت تحت ستار محاربة الإرهاب بإرسال بوارجها وطائراتها وقطاعات من جيوشها لتشعل النار في دول المنطقة بأكثر مما كانت عليه، وبما حال دون التوصل إلى تهدئة أو معالجة للوضع المتوتر القائم في عدد من دول المنطقة، وهو ما يعني أن صناعة الإرهاب تم تدويلها بما لا يمكن القول إن أطرافها عناصر أو تنظيمات محلية فقط، في ظل فشل المجتمع الدولي في معرفة الطريق الصحيح للوصول إلى حلول ناجحة، ولنا في التدخل الروسي في سوريا أصدق دليل.
* * *
وعليّ أن أستدرك وأقول: إن ثقافة المجتمع لدى دول المنطقة العربية ساهمت هي الأخرى في بناء هذا التطوُّر المتسارع لهذه الصناعة الخطيرة، وأدرك الجميع - ولو أنه جاء متأخراً - أن الإرهابيين يقوضون كل إنجاز جميل بناه المواطنون المخلصون بعرقهم ومالهم وسنوات من أعمارهم، وأن الاستقرار في دولهم يحتاج تأمينه إلى مزيد من ضخ الأموال، والانشغال بالأمن على حساب ما عداه من برامج في مجالات التعليم والصحة والتنمية المستدامة وغيرها؛ وهو ما حرَّك الخوف والشعور بالمسؤولية، ولكن ذلك حدث بعد فوات الأوان، وبعد أن أصبحت لملمة الجراح غير ممكنة إلا أن يشاء الله.
* * *
ومع أن هذا المؤتمر هو عن (صناعة التطرف: قراءة في تدابير المواجهة الفكرية)؛ إذ يتبنى ضمن أهدافه مواصلة البحث والدراسة في مواجهة التطرف، وهو الذي كان قد شكَّل عنواناً للمؤتمر الأول الذي عقدته مكتبة الإسكندرية في مثل هذه الأيام من العام الماضي، إلا أن مواجهة صناعة التطرف لا تقوم على التنظير، ولا تعتمد على الندوات والمؤتمرات فقط، وربما جاز لي القول إن الثقافة والإعلام والكتّاب والخطاب الديني، بل حتى مخرجات التعليم على أهميتها، لا يمكن أن يكون لها دور مؤثر طالما أن دول العالم دون الاتفاق على كلمة وموقف وتعامل واحد مع هذه الظاهرة الدموية القاتلة.
* * *
ومن الخطأ أن نتصور أننا لا نعرف كيف تم بناء هذه التنظيمات الإرهابية، ومن هم الداعمون لها، وثم عدم مواجهة هذه الظاهرة بقراءة صحيحة لحقيقتها، وإذا ما اعتقدنا أن إعادة النظر في مخرجات التعليم والخطاب الديني والثقافة والإعلام تجعلنا قد عثرنا على العصا السحرية في إزالة هذا الكابوس الإرهابي من حياتنا، فإن هذا نوع من التخدير بانتظار ما هو أسوأ بينما لا يظهر التصميم الجاد في تعامل الدول مجتمعة في التصدي للإرهاب، واجتثاث مصادره، ومنع أي صناعة يُشمُّ منها أنها تنتسب إلى فصيلة من فصائل الإرهاب.
* * *
لقد تعامل العالم مع ظاهرة القاعدة على مدى سنوات، واعتقدنا جميعاً أنها إلى زوال؛ فقد قُتل زعيمها أسامة بن لادن، واختفت عناصر قيادية مهمة في هذا التنظيم، وزجت أمريكا في سجونها بأعداد غير قليلة من المنتمين لهذا التنظيم، غير أننا فوجئنا أننا أمام تنظيم إرهابي أقوى وأشرس من القاعدة، وله ملاذ آمن، ومصادر دخل كبير من المال، وظهور علني لقواته أمام أنظار العالم في تحد سافر، بينما قوى العالم العسكرية لا تتجاسر في القضاء على مصادر قوته، أو أنها لا ترغب في ذلك، إن لم تكن بين هذه الدول من تدعمه مالياً وعسكرياً، وبالرجال.
* * *
إن السلوك الإجرامي الذي تعتمد عليه فلسفة هذه التنظيمات الإرهابية لإرهاب الناس وتخويفهم، كما رأينا في قتل داعش لعشرات من الأبرياء، وتصوير مشاهد القتل غير الإنسانية، وغير المبررة، لا يمكن تفسيره إلا أنه تحدٍّ صارخ لدول العالم، وثقة واطمئنان بأن هذه الدول لن تكون على موقف واحد في التعامل مع جرائمهم؛ وهو ما جعل التنظيم يحتل أجزاء من أراض عراقية وسورية، وقد وصل إلى ليبيا وتونس واليمن، فقتل من قتل، وعذب من عذب، وها هو يمضي في ممارسة هذا السلوك دون أن يواجَه ذلك بالجدية والمسؤولية والتصميم الذي يتطلبه الموقف.
* * *
لقد ساهمت فضاءات التواصل الاجتماعي، كما الثقافة بكل أطيافها، في ظهور التطرف في سلوك الناس، وتطوره إلى ممارسة الإرهاب، وامتداده ليصبح معتقداً وفكراً وثقافة، يرتهن لها الكثير من الأتباع، دون أن تبرز في الساحات حلولٌ يمكن تطبيقها، وأفكارٌ فاعلة لمواجهة التطرف والعنف وسطوتهما وتأثيرهما في السلوك الإرهابي الذي يخيم على أجواء الحياة في كثير من دول المنطقة، وامتداداً إلى بعض دول العالم، كما حدث في فرنسا وبريطانيا وغيرهما.
* * *
وإن استقراء الأسباب واقتراح الحلول لمواجهة الإرهاب يمثل ما نراه الآن غير كافٍ، كما أن الحلول الأمنية دون مصاحبتها باهتمام وعناية بالجانب الفكري والثقافي والإعلامي غير كافية هي الأخرى؛ إذ لا بد من إعادة النظر في مخرجات التعليم، ومثله الخطاب الديني، والتربية في البيت، والسلوك في الشارع إلى جانب مواجهة الإرهاب عسكرياً؛ للوصول إلى معالجات حاسمة، وطمأنة الشعوب على أن أمنها واستقرارها مصانان، دون أن تُصاب بخوف وذعر كما هو حالها في الوقت الحاضر.
* * *
على نمو الفكر المتطرف وانتشاره ينبغي أن يكونا هاجس دولنا العربية ودول العالم؛ لأن مفتاح التنمية في دولنا سيظل مفقوداً إذا ما بقي الإرهاب يضرب بقوة هنا وهناك. فيما أن مكافحة الإرهاب لا تقتصر مسؤوليته على الحكومات فحسب، وإنما يشاركها الجمهور والمثقفون والعلماء - كلٌّ ودوره - في إيقاف زحفه المتسارع، وآثاره المدمرة، مثلما تفعل مكتبة الإسكندرية الآن وغيرها من المؤسسات المختصة، التي تقوم سنوياً بتنظيم مؤتمر عن الاستراتيجية العربية المناسبة لمواجهة الإرهاب.
* * *
وعلينا أن نعترف بأنه لا توجد تحوُّلات إيجابية كبيرة في مواجهة داعش والنصرة وغيرهما؛ فقد أصبح ما يطلق عليه الإرهاب العابر للحدود ظاهرة خطيرة؛ إذ لم تعد التنظيمات الإرهابية تعتمد على مواطني الدول العربية التي غزاها الإرهاب، وإنما أصبحت الواجهة الإرهابية المناسبة لجميع دول العالم دون استثناء؛ وهو ما عقّد المشكلة، وأبعدها عن الحلول السريعة، وجعلها على هذا النحو من التأزم وصعوبة الحل، رغم تدخل قوات عدد من الدول فيما سُمي بمحاربة الإرهاب.
* * *
وسوف يستمر تفريخ الإرهاب طالما استمر استخدام الدين مظلة لظهور هذه التنظيمات الإرهابية، بما أدى إلى العنف، وتعريض الهوية الوطنية للخطر؛ وهو ما يقودنا إلى تكرار القول إن المعالجة لن تكون بعقد المؤتمرات، وصدور التوصيات والمقترحات عنها؛ فإذا لم يقترن ذلك بتطبيق ما يتم التوافق عليه فلن يكون لمثل هذه المؤتمرات ولا توصياتها تلك القيمة السحرية التي تُحدُّ من انتشارها وآثارها؛ الأمر الذي يجعل من مكتبة الإسكندرية - تحديداً - أمام مسؤولياتها بأن تتابع تنفيذ ما يصدر من توصيات عن مؤتمراتها، وبنفس القدر من الاهتمام الذي تعطيه لعقد هذا النوع من المؤتمرات.
* * *
ومن الواضح أن أكثر مؤشرات التغرير بالشباب، ووقوعه في حبائل شَرَك الإرهاب، تلك الدعوات المشبوهة التي توجه إلى الشباب، وتحثهم على الجهاد، وتضع أمامهم من الترغيب بالجنة والحور العين ما يغريهم للقبول بهذه الدعوات من خلال توظيف الدين - القرآن والسنة - توظيفاً يخرج عن حقيقة تعاليم الإسلام وسماحته واعتداله، وذلك بشكل ممنهج، وبأساليب مخادعة، ووعود كاذبة، يصدقها شباب تنقصهم المعرفة وتعوزهم القدرة لمعرفة أهداف هؤلاء الدعاة الذين يتبنون التبشير بهذا الفكر الضال.
* * *
ومن المؤكد أيضاً أن محاصرة التطرف، وتجفيف منابعه، إنما ينبعان من دور ينبغي أن تقوم به كل أطياف المجتمع في كشف أهداف الخلايا الإرهابية، وعدم الاستسلام لمن يدعو إلى ثقافة الانغلاق الفكري، ضمن سياق الترويج للتطرف، والحث على العنف، والإخلال بالأمن، مع بيع للأوهام لمن يكون جاهزاً من الشباب وصغار السن، لاصطيادهم وضمهم إلى صفوف الإرهابيين.
* * *
وإن إصلاح التعليم، وإعادة النظر في الخطاب الديني، والنأي بالإعلام عن كل ما يقود ويساعد على إفساد سلوك الناس، هو ما يجب أن تركز عليه المؤتمرات والندوات والمحاضرات في محاورها وتوصياتها، انطلاقاً من قاعدة أن الفكر يواجَه بالفكر، ومن يتفوق على الآخر في هذا الجانب سوف ينتصر عليه ويهزمه في الجوانب الأخرى، وربما كانت حرية التعبير مدخلاً لصناعة هذا النموذج من المقاومة للفكر الضال، وبالتالي سبباً في استئصال هذا النشاط الإرهابي الخبيث.
* * *
وعلينا أن نتذكر أنَّ مكافحة التطرف والإرهاب والتصدي لصناعته قد كُتب عنه الكثير، وعُقدت من أجله المؤتمرات، وأنَّ مجموعة من المقترحات والرؤى التي تصبُّ في مصلحة مكافحته، كلّها لم تحقق الحد الأدنى مما كان ينشده العقلاء من الداعين إلى الاستقرار والسلام، في مقابل ذلك فإنَّ من يغذي هذا التوجه المتوحش من الكتَّاب ووسائل الإعلام وبعض الدعاة الدينيين قد نجحوا في إفساد مواقع كثيرة في منطقتنا، وتحويلها إلى بؤر إرهابية لا ترحم أحداً.
* * *
وحين تسأل عن دور الثقافة والتعليم والإعلام والثقافة الإسلامية، دون أن تُغفل دور الحكومات العربية في ذلك، فسوف لن تكون الإجابة مريحة أو مقنعة، أو أن أحداً سوف يحملها على الجد، إذ إن هذا الدور كان وما زال ذا مستوى متدنٍ ومتواضع إلى حد كبير بدليل تنامي الإرهاب وتوسعه، وقدرة منظريه على إقناع أعداد غير قليلة للانخراط في شبكته، والانضواء تحت قيادة من يحارب السلام ويعادي التسامح.
* * *
ولهذا، فإن المطلوب من الدول العربية بذل المزيد من الجهد من أجل ولادة عمل عربي مشترك بين الأنظمة وشعوبها من خلال التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، لتفادي الأضرار المستقبلية التي يمكن أن تكون بالغة الخطورة فيما لو استمر الإرهابيون يجدون في متناول أيديهم مساحات ينتقونها من الأراضي، وكذلك مصادر التمويل، مع شيء من السلبية المفرطة في التعامل معهم، والاسترخاء أمام كوارث لم تستثن مؤسسة طبية أو مسجداً أو مدرسة أو شجرة كان يستظل بها الأبرياء من المواطنين.
* * *
الإرهاب إذاً وكما يفسره الدكتور عبدالرحمن خلف المطيري من الكويت في بحث له بعنوان (دور مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة التطرف والإرهاب) يتميز بخصائص مختلفة عن إرهاب العقود السابقة، من حيث التنظيم والتسليح والأهداف، حيث تضم مجمعاته أفراداً ينتمون إلى جنسيات مختلفة تجمعها أيديولوجية دينية أو سياسية وليست قومية، ومن أهدافه إيقاع أكبر عدد من الخسائر المادية والبشرية، وأنه أصبح قادراً على استخدام منظومات تسليحية أكثر تطوراً، وأنه لا يمكن القضاء عليه ما لم تعالج العيوب الهيكلية في النظام الذي ينتهجه، أي بإزالة الأسباب.
* * *
ثقافة الإرهاب إذاً لم تعد عسيرة الهضم، فقد أصبح الداعون إليها، والمروجون لها، قادرين على التأثير في من يكونون مستهدفين منهم، ولهم أساليب في ذلك، بما لا يمكن أن يكون العالم قادراً بسلاحه فقط في القضاء على مصادر هذا الإغراء إلا بإعادة النظر في كثير من المسلمات القائمة، مسنوداً بقوة عسكرية ضارية لمحاربته، وبتنسيق دولي صادق وملتزم بين دول العالم، إذ إنه بغير الاعتماد على محاربة الفكر المتطرف بالفكر المتسامح لن تكون الحروب العسكرية كافية للقضاء عليه، فقد أصبح الإرهاب ظاهرة خطيرة له تنظيمه وتمويله ومنظروه، بما يجعل من خطورته المستقبلية أكبر بكثير مما نراه الآن.
* * *
وقد يكون من المناسب في نهاية حديثي عن الإرهاب، أن أشير إلى دور رائد تبنته المملكة العربية السعودية لمكافحة الإرهاب، امتداداً لأدوار سابقة كانت المملكة قد قامت بها، وأعني بذلك استضافتها وتبنيها لتشكيل تحالف إسلامي عسكري لمحاربة الإرهاب مقره الرياض ويضم أربعا وثلاثين دولة عربية وإسلامية، وقد انبثق عنه تأسيس مركز عمليات مشترك لهذه الدول يختص بالتنسيق والدعم للعمليات العسكرية لمحاربة الإرهاب في جميع أقطار وأنحاء العالم الإسلامي، وتطوير البرامج والآليات اللازمة لدعم الجهود في هذا المجال، وكانت المملكة قد استضافت من قبل المؤتمر العالمي عن الإرهاب تحت عنوان (الإسلام ومحاربة الإرهاب) ودعمته بمائة مليون دولار، لكون المملكة أكثر الدول التي تعرضت للإرهاب، وعانت منه ما عانت، بخلاف جمهورية إيران - على سبيل المثال - التي لم تتعرض ولو لحالة إرهابية واحدة، مما يثير التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء حصانتها من الإرهابيين، وهي الموجودة بقواتها وعناصر من أفرادها في جميع المناطق الملتهبة في منطقتنا.
** ** **
* ورقة بحثية مقدمة لمؤتمر «صناعة التطرف: قراءة في تدابير المواجهة الفكرية»
المقام بمكتبة الإسكندرية في الفترة من 3-5 يناير 2016م