لبنى الخميس
ما هي أول فكرة تخطر في بالك حينما تسمع كلمة خُلوة؟ لابد أن نبضات قلبك ستتسارع، وحدقة عينك سوف تتسع، وتتجه ظنونك نحو العلاقة الطردية الشهيرة بين الكلمتين «خلوة» و»غير شرعية» .. حيث ترسبت عبر سنوات طويلة في عمق العقل اللاواعي الجمعي لدى مجتمعنا السعودي، نظير كثافة تكرارها في بطون كتب الدين وعلى رؤوس المنابر وفي قلب صراعاتنا التيّارية، آخرها قول الشيخ عبد الله السويلم في إحدى خطبه قليلة الجمهور، كثيرة الجدل: وجود المرأة في الأسواق لم يَعُد اختلاطاً بل خلوة! في تصعيد جديد وخطير لمرتبة معصية تواجد المرأة في السوق بشكل خاص، وخارج منزلها بشكل عام!.
وفي وقت لايزال فضاؤنا الفكري وعقلنا اللاواعي يضجّ بترددات الخلوة ويستقبلها باسترابة وترقب محذراً من عواقبها المشينة. أطلق صاحب سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي مفهوماً إدارياً بسيطاً في فكرته عظيماً في مخرجاته، وأطلق عليه اسم «خلـوة» كعلامة إدارية ملهمة مسجلة باسمه، وهو أن يختلي مجموعة من صنّاع القرار في مكان هادئ بعيد عن ضجيج المدينة وضوضائها - كمخيم صحراوي أو بقرب اسطبلات للخيول العربية - ليخرجوا بأفكار خلاّقة وقرارات مبتكرة لحكومة أفضل وشعب أسعد، بعد أن يمارسوا ما يسمّى «بالعصف الذهني» أي حالة تفكير جماعية لإنتاج أفكار وحلول جديدة. فإن كانت نسبة الإبداع تتضاعف حينما يختلي الإنسان بنفسه، فكيف إن تحوّل هذا الفرد إلى مجموعة من المؤثرين وصنّاع القرار؟
وكانت آخر خلوة عقدها الشيخ محمد بن راشد هي خلوة المائة، وهي عصف ذهني لمائة عقل إماراتي، في وقت صباحي باكر يستحثّ التفكير ويحفّز الإبداع، وفي موقع مميز يساعد على تصفية الذهن وتدفق الأفكار، وذلك للخروج بمبادرات ومشاريع لعام القراءة 2016 فرأي شخصين في الغالب أفضل من رأي شخص واحد، وأفكار عشرة أشخاص أشمل من أفكار شخصين، وتشغيل مائة عقل أفضل من دون شك من تشغيل عشرة عقول.
الخلوات هي منهج إماراتي بامتياز، انتهجه الإداري المحنّك الشيخ محمد بن راشد مؤمناً بأنّ الأفكار هي عماد الأمم وسلاحها للتقدم والازدهار، وأن العقل هو أعظم نعم الرب، وعدم استغلاله وتحفيز إبداعه هو محض عبث وإضاعة للوقت. فالخلوة كإسلوب إداري حديث أثبتت فعاليتها في تدفق الآراء وسريان الإبداع واستنطاق الأفكار، وذلك حتماً ليس مهمة سهلة، فالأفكار كالورود الزكية لا تنبت إلاّ في تربة خصبة وبيئة راعية وحامية لمشروع نموها وتكاثرها.
بعض المفاهيم الثقافية والاجتماعية تحمل في جوفها بذور نهضتنا أو منزلقات تخلفنا، ومدى هوسنا بالانصراف عنها والتحذير من شرورها سيضاعف تعلقنا بها، حتى نتحول من أسياد الفكرة إلى عبيد لها. وما الخلوة إلى مفهوم ذكرته على سبيل المثال لا الحصر، لبعض البرمجات التي غلفناها بمئات المحاذير والاحترازات، وجاءت بعض المجتمعات الأخرى لتفرغها من حملها وإرثها السلبي، وتلبسها ثوباً يليق بلغة نهضتها وخطاب تقدمها.
أخيراً.. إذا أردت أن تقيس مدى تقدم وانفتاح أي مجتمع فلا تتبع أبرز العبارات والمفاهيم التي تسيطر على فضاء النقاش والخطاب فحسب، بل اقرأ كيف قرر هذا المجتمع أن يعيد تدوير تلك المفاهيم المثقلة بإرث الاسترابة وظلامية السياق ويسخرها لخدمة مشروع ونهضته وازدهاره. فنحن من نمنح الكلمات الحياة، ونحن من ننزع الروح منها.