د. محمد البشر
وضعت السيدة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه كتاباً عنوانه (فضل العرب على أوروبا). وقد ذكرت السيدة المؤلفة في مقدمتها الأسباب التي دفعت بها إلى وضع هذا الكتاب، وكان مما قالته:
«شاء الله أن يظهر بين الأوروبيين، من يجرؤ على قول الحقيقة، فلا نغمط العرب حقهم في أنهم حملوا رسالة علمية، وأدوا خدمة إنسانية للثقافة البشرية قديما وحديثاً. وهذا النفر من الأوروبيين لا يأبه لتحدي أولئك المتعصبين، الذين أعماهم تعصبهم الديني، فحاولوا جهدهم طمس معالم هذه الحضارة العربية، أو التقليل من شأنها.
إن أوروبا تدين للعرب وللحضارة العربية، وإن الدين الذي طوق أوروبا، وسائر القارات كبير جدا. وكان يجب على أوروبا ان تعترف بهذا الصنيع، ولكن التعصب الديني، واختلاف العقائد أعمى عيوننا، وترك عليها غشاوة، ونحن لا نجد فيما نقرأه من كتب إلا إشارات عابرة إلى أن دور العرب لا يتعدى دور ساعي البريد، الذي نقل إليهم التراث اليوناني.
إن موقف أوروبا من العرب من ظهور الإسلام، موقف عدائي بعيد كل البعد عن الإنصاف والعدالة. والتاريخ وقتذاك كان يملي ويصنع، والمملي لم يكن الضمير، وإنما كان التعصب الأعمى.
وتلفت المؤلفة النظر في مقدمتها إلى أنه نبغ في الدولة العربية عدد كبير من غير العرب، ولكن هؤلاء لا يمكن أن يعتبروا غير عرب من ناحية إنتاجهم العلمي، لأنهم عاشوا في الدولة العربية، وازدهروا بفضلها، وكتبوا وألفوا بلسانها، وكما أن إيزنهاور - الألماني الأصل - لا يمكن أن يعتبر إلا أمريكياً، لأنه عاش في الدولة وحمل جنسيتها، وشعر بشعور أهلها، وقاتل في سبيلها، كذلك لا يمكن أن يعتبر ابن سينا والفارابي والرازي، غير عرب.
كانت الفتوحات العربية غريبة في نوعها حقا، إذ لم تكن فتوحات المسلمين، يقصد بها القيام بأعمال السلب والنهب، والعنف والتخريب. وكل ما ذكر عن تعصب المسلمين، أو قسوة قلوبهم، أو خشونة طباعهم وبربرية أعمالهم، هو كذب وافتراء. وهو دعاية من صنع أعداء العرب وخصومهم. ولا أدل على بطلان تلك الشائعات والاضاليل، من العودة إلى الصفات الكريمة التي اتصف بها العرب الفاتحون:
«روح إنسانية عالية، وتسامح تضرب به الأمثال». ولم يعرف التاريخ كثيراً من الأمم، وقفت موقف العرب الإنساني المتسامح مع الأمم المغلوبة، التي كانت تخالف في دينها دين المنتصرين.
فلم يتدخل المسلمون بعد الفتح في شؤون رعاياهم الداخلية، وعاملوهم بالعدل، وقد كتب بطريرك القدس في القرن التاسع، إلى بطريرك القسطنطينية، يعرفه بأحوال النصارى في ظل الحكم الإسلامي وكان مما قاله:
«والمسلمون لا يظلموننا ولا يضطهدوننا، انهم يمنحون مختلف رعاياهم من أصحاب العقائد الأخرى كل حرية في تأدية فرائضهم الدينية أو حقوقهم المدنية، متى دفعوا الجزية واطاعوا أولي الأمر».
وفي العصور الاسلامية المتأخرة، حيث أصبح المسلمون مزيجاً غريباً من مختلف الشعوب، أخذت تظهر بعض النعرات الدينية المتعصبة، أما العرب الخلص، فقد كانوا بعيدين عن الخوض في مثل هذه الخصومات.
كان هم العرب بعد استقرار فتوحهم، منصرفا إلى نقل علوم اليونان والفرس، إلى اللغة العربية. وبسرعة خاطفة، شرعوا في ذلك، وساروا فيه، وكان خلفاء المسلمين أحرص الناس على ذلك. فلما انتصر الرشيد على الروم في عمورية لم يطلب غرامات حربية، ولا تسليمه سفناً وذخائر وأسلحة، وإنما طلب تسليمه المخطوطات اليونانية، لتنقل إلى العربية. ولما انتصر المأمون على الإمبراطور ميخائيل الثالث طلب إليه، كتعويض حرب، أن يسلمه جميع المخطوطات اليونانية الخاصة بالفلسفة، والتي لم تترجم إلى العربية بعد.
كان التعليم في العالم الإسلامي ميسراً لجميع الناس، وكان الأطفال من جميع الطبقات، يقصدون المدارس الأولية، لقاء نفقات ضئيلة جداً. وفي إسبانيا المسلمة كان التعليم مجانياً وقد كانت توجد في قرطبة وحدها ثمانون مدرسة لأولاد الفقراء.
والعرب الذين دخلوا إسبانيا، حملوا إليها الثقافة والمعرفة، ونشروا العلم، فازدهرت الحضارة العربية، وبلغت شأناً رفيعاً. وقد دام حكم العرب لإسبانيا ثمانية قرون، كانت هي العصر الذهبي في تاريخ إسبانيا.
وهذه الثقافة الرفيعة العالية، التي بلغها العرب في إسبانيا، هي خير ما يدحض الادعاءات القائلة إن العرب قد أخذوا الحضارة البائدة وأعادوها ثانية.